للخبراء المميّزين الذين يعرفون التأثير الحاسم للاقتصاد على القرار السياسي أن يقدّروا فيقوّموا خطورة خروج بريطانيا، بالاضطرار وخضوعاً لأغلبية بسيطة شعبياً، من مشروع الوحدة الأوروبية الذي كان يهدف إلى جعل أوروبا قوة عالمية ثالثة، أو ربما ثانية بعد الولايات المتحدة الأميركية وقبل الاتحاد الروسي..
أما نحن في هذا الوطن الصغير المحاصَر بالعدوان الإسرائيلي المفتوح وبالكوارث القومية التي تتهدّد دولاً عربية عدة بالتمزق، على قاعدة طائفية أو عنصرية، فقد يعنينا الاستفتاء بذاته وأرقامه، قبل الحديث عن نتائجه السياسية والاقتصادية على بريطانيا بالذات ومن ثم على الحلم الأوروبي بالوحدة، بكل ما تعنيه من تخطٍّ للماضي بحروبه متعدّدة الشعار بين القوميات والأعراق والطوائف المسيحية، عموماً، والمصطرعة عبر التاريخ قديمه بمسافة ثلاثة قرون واليوم حيث توارى ذلك كله، مخلياً المساحة «الهوية واحدة» يتجاوز حاملها الحدود التي رسمها الدم غالباً، ويتجول في انحاء القارة العجوز وكأنه يتنقل داخل بيته: بلا جواز سفر وتأشيرات واشتباه يستولد الشك في الأصول أو في النيات..
لم نعرف في هذا الوطن العربي، مشرقاً ومغرباً، الاستفتاء إلا على «رئيس الجمهورية»، بمرشح أوحد، والدولة بأجهزتها كافة تعمل على إنجاحه بنتائج باهرة تتراوح بين تسعة وتسعين في المئة (99%) وأربعة وتسعين في المئة (94%)... ومن ثم فتفجّر الأفراح زغاريد ورصاص ابتهاج وبرقيات تهنئة وتبريك للرئيس الذي حطمت شعبيته الأرقام القياسية جميعاً... مع أنه شخص واحد، بلا برنامج إلا صورته وتلفيق لمسلسل من الإنجازات يمكنها ـ لو أنها تمت ـ أن تغير صورة العالم أجمع وتكتب تاريخاً مضيئاً للإنسانية في أربع رياح الأرض...
للمناسبة: وصلت العدوى بالمرشح الأوحد للرئاسة الأولى إلى لبنان بعد اتفاق الطائف الشهير، فكان المرشح الأوحد يقتحم المجلس النيابي معززاً بمرشح ثانوي توكيداً للإيمان الراسخ بالديموقراطية وحق الاختيار..
وهكذا يصير «انتخاب» هذا الرئيس المعيَّن (بالقرار الخارجي، أجنبياً بالكامل أو عربياً بغطاء اجنبي، أميركي في الغالب الأعم ابتداء من العام 1958، وبالشراكة مع مصر جمال عبد الناصر، وبعده بالشراكة مع سوريا حافظ الأسد مع حفظ حصة رمزية للسعودية بتواطؤ معلن..).
ربما لهذا سقطت قيمة «الاستفتاء» كوسيلة ديموقراطية لمعرفة رأي الشعب والاستناد إليه في القرار المصيري.
لقد سلَّم البريطانيون بأن بلادهم لم تعُد «الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس»، وأنها باتت دولة مؤثرة ولكنها ليست «دولة القرار الكوني»... وعلى حد ما قال سفير بريطاني سابق في بيروت: «نحن نعرف أننا قد غادرنا دورنا الدولي الحاسم، أو المؤثر في أقل تقدير... ونعرف ان الولايات المتحدة الأميركية هي اليوم صاحبة القرار في الشؤون الدولية.. لكننا بيت خبرة ممتازة تحتاجها هذه الدولة العظمى التي تكاد تمسك ـ منفردة ـ بالقرار الدولي.. وعلى هذا فقد ارتضينا بدورنا الجديد كبيت خبرة، فريد في بابه. وهكذا فنحن نبيع خبرتنا للولايات المتحدة الأميركية، فنسترضي غرورنا بالادعاء أننا وإن خسرنا دور الشريك إلا أننا «شركاء» في القرار من موقع الخبير والمرشد..».
ونعود إلى أحوالنا في دنيانا العربية:
..فأما الملوك الذين يعتبرون أنهم قد اخذوا البلاد التي يحكمون بالسيف فلا يحتاجون استفتاء أو انتخاباً (ولو شكلياً) أو اية شراكة لرعاياهم (الذين يكوّنون ما يُسمّى «الشعب») في القرار، سواء كان قرار تنصيبهم ملوكاً أو تنصيب مَن يختارون ولياً للعهد، أو قرار تعيين وليين للعهد ثم استبدال العم بالابن، من دون شرح أو تبرير..
وأما رؤساء الجمهورية في عدد من الأقطار العربية، مغرباً ومشرقاً، فيحكمون ما شاءت لهم الاستفتاءات ان يحكموا.. وهذا الرئيس الجزائري يحكم ـ كما الملوك ـ مدى الحياة. أما الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، فظل يرفض ترقية ذاته من رتبة «عقيد»، حتى اغتياله بعد 42 سنة طويلة.
وصحيح أن بعض رؤساء الجمهورية في لبنان قد تجاوزوا المدة الدستورية في هذا الموقع السامي، فقنصوا «نصف ولاية» إضافياً، ولكنه لم يكن عبر استفتاء شعبي بل عبر المجلس النيابي الذي يكاد الآن يتحول إلى «ملك» غير منتخب وبمدة ولاية مفتوحة.
وفي تاريخنا السياسي اللبناني أن محاولة الرئيس كميل شمعون قد فشلت في تمديد ولايته... برغم أنه كان بين من «حرّكوا الجماهير» للانقضاض ضد أول رئيس منتخَب لدولة الاستقلال الشيخ بشارة الخوري، وكانت النتيجة أن استقال أحد ابطال الاستقلال وسلم مقاليد الرئاسة لقائد الجيش اللواء فؤاد شهاب ثم اعتكف في منزله يكتب مذكراته حتى وفاته... في حين رفض شهاب التمديد الذي أيّدته الأغلبية المطلقة من النواب وأصرّ على احترام «الكتاب» أي الدستور... متنبئاً بمستقبل مظلم لوطن الأرض لم يتأخر عن القدوم إلا سنوات قليلة.
لقد خاضت بريطانيا، بحكومتها الحالية، استفتاءين شعبيين: الأول حول بقاء أيرلندا في المملكة العظمى، وقد كسبته بالنقاط، والثاني حول الاستمرار في الوحدة الأوروبية أو مغادرتها، وقد خسرته بالنقاط أيضاً. وما أوسع الفارق بين نقاط «نعم» ونقاط «لا».
أما نحن فما نزال ننتظر نتائج اللوتو في عواصم القرار في البلاد البعيدة لكي نعرف مَن سيكون الرئيس المقبل لجمهوريتنا ذات النظام الديموقراطي الفريد في بابه..
على أن مجلس نوابنا ممدِّد الممدَّد فجدير بأن يجترح هذا النوع الفريد في بابه من الديموقراطية.. ومن الرؤساء!