وأخيراً.. صار لبيروت «ميدانها»!
نزلت «الجماهير» في صورتها الأصلية: بريئة من شبهة التعصب ولوثة الطائفية والمذهبية، صادقة في مطالبها البسيطة، تريد أن تحمي حقوقها على دولتها، تريد وقف النهب وسرقة الثروة الوطنية. تريد حماية «الدولة» لتكون لها بدل أن تظل مزرعة لأصحاب النفوذ. تريد حكماً يليق بها، بقدراتها، بكفاءاتها، بثقافتها، بمعارفها التي يتزاحم «لشرائها» عرب النفط أو يسترهنها ـ ومعها الهوية ـ الغول الأميركي.
نزلت الجماهير لتكشف غربة النظام عن الديموقراطية وعداءه لها، فلا هو برلماني ولا هو ديموقراطي. لا هو جمهوري فعلاً، ولا هو ملكي. لا هو قبلي تماماً، وإن كانت «العائلات» تحتل الصدارة فيه، ولا هو علماني بأية صورة من الصور. ادعاء العلمانية يسقط مع تعيين الحجّاب ورجال خفر السواحل ناهيك بالجيش وقوى الأمن الداخلي عموماً. يسقط مع قانون الانتخاب وتحديد الدوائر. يسقط عند تشكيل الحكومة، أية حكومة. يسقط مع تسمية السفراء والقناصل.
تغلب الطائفية الكفاءة. تقهر الطائفية شهادات التخصص العلمي. تقهر الطائفية الوطن. تحوّل «الدولة» إلى كونفدرالية طوائف. ولأن الطائفية تستدر المذهبية تتهاوى الوطنية وتصير عبئاً على أصحابها. تسقط الطائفية حقوق الإنسان كل ساعة: أنت ابن طائفتك، تغادرها فإذا أنت لا أحد. تفقد مواطنيتك! تُسقط الطائفية أعلى الشهادات الصادرة عن أرقى جامعات العالم. تُسقط، بداية، الجامعة الوطنية. تُسقط المدرسة الوطنية.
أنت لست مواطناً. أنت رعية. رعية للطائفة، والطائفة رعية للزعيم. ولكي يبقى الزعيم زعيماً يجب أن تبقى الطائفة حرماً خاصاً، ملكاً خاصاً، دائرة نفوذ خاصة، يمنع على رعاياها مغادرتها وإلا صاروا من «الخوارج» وفقدوا «حقوقهم» كرعية. خارج الطائفة أنت لا أحد.
النظام جبار. يعتقلك منذ لحظة الولادة، فإذا أنت رعية لطائفة أولاً وأخيراً. إن تزوجت من طائفة أخرى توجب عليك أن تعتقل أبناءك في خانة القيد الطائفي خارج المواطنة.
&&&
أمس، وأكثر من أي يوم مضى، قرر عدد محترم من اللبنانيين أن يكونوا «مواطنين». خرجوا من طوائفهم إلى الأفق الوطني العام. اكتشفوا أنهم يمكن أن يصيروا شعباً. اكتشفوا أنهم يمكن أن يكسروا قيودهم ويتلاقوا على الحد الأدنى من حقوقهم البسيطة: ألا تخنقهم «الزبالة»، وغيلان الزبالة والشركاء في استثمار الزبالة والمطامر والعمال الأجانب الذين يعيشون بالصدفة ويموتون بلا مشيعين!
... وكانت فرصة ليكتشفوا أن «الزبالة» منجم من ذهب، ولهذا فهي «احتكار» لقلة من أصحاب الحظوة: يدفعون الضريبة فتكون لهم «المطامر» والمغانم والأرباح الخرافية... وتكون لهم الحماية وحق احتكار النفايات.. المذهبة.
.. وكانت فرصة ليعرفوا بالملموس أن النفايات أقوى من الحكومة المعلق اجتماعها على نصاب الأربعة والعشرين وزيراً، فإذا اعتكف واحد أو اعترض مستخدماً حق «الفيتو» الطائفي دخلت الحكومة في بطالة مفتوحة...
... وكانت فرصة ليتنبهوا إلى انهم بلا مجلس نيابي. صحيح انهم يدفعون الرواتب والمخصصات لمئة وثمانية وعشرين نائباً (عدا الكتبة والحرس والمرافقين والسيارات التي لا تدفع الرسوم الجمركية..)
ليست «الزبالة» إلا العنوان الرابط بين موبقات هذا النظام الذي يجمع بين متناقضين لا يجتمعان: الطائفية والديموقراطية! فهو ديموقراطي في توزيع المناصب والمغانم على زعماء الطوائف. أما الرعايا فلهم الله، جل وسما.
والأدلة على ديموقراطية النظام أكثر من أن تحصى: فهو يمكن ان يعيش بلا رئيس للجمهورية. وهو يعيش بمجلس نيابي مقفل بلا مبرر مقنع. ويعيش بلا حكومة. يكفي رئيس مكلف لمدة سنة، وحكومة مستقيلة تصرّف الاعمال. ويعيش بإدارات مفرغة من مديريها العامين. وتعيش دولته بلا موازنة لسنين طويلة، يا سيد! وتعيش دولته ودينها العام بأرقام فلكية، وإداراتها بجيوش الموظفين فيها، مدنيين وعسكريين، مهددة بعدم القدرة على تأمين الرواتب.
مع ذلك، يمكن للبنان أن يتباهى بنظامه المفرد. فالأشقاء العرب يطمحون إلى نظام مشابه. إنهم لطول ما عاشوا في ظل أنظمة قمعية يرون في الفوضى ديموقراطية، ويرون في الطائفية المعلنة تقدماً على الطائفية المغلفة بشعارات التقدمية والعلمانية. كذلك يرون في الفوضى الشاملة حرية مطلقة، تشمل الزواج والحب والاختلاط والجامعات الخاصة والسفر المفتوح وراء الطموح إلى أي مكان.
&&&
لقد صار للبنان «ميدانه».. بل «ميادينه» التي استولدها الفراغ المكلف في مواقع القرار: نيابياً، ووزارياً، وإدارياً.
لكن «النظام» ما زال أقوى بكثير من الميدان، بدليل ان رئيس الحكومة لا يستطيع ـ بحكم مسؤوليته الوطنية ـ ان يستقيل، وهو لا يستطيع بموجب مسؤوليته القانونية أن يضبط الحكومة التي ليست حكومة واحدة، والتي فيها من «الرؤساء» أكثر مما فيها من الوزراء.
وأعظم حليف لهذا النظام الفريد في بابه: «الزبالة»!
والخوف أن تخنق زبالة النظام «الميدان»، وتعيد جماهيره صاغرة إلى مربع العراك الطائفي ـ المذهبي وهو ولادة للنفايات والزعامات والثروات.. والفتن التي تحوّل الميدان الواحد إلى ميادين بعدد المستفيدين من النظام الطائفي، وما أكثرهم!