مؤكد أن القيادات السياسية العربية، على اختلاف مواقعها ومواقفها، قد «فوجئت» بالحرب الإسرائيلية الجديدة على غزة هاشم فلسطين، سواء بتوقيتها القاتل أو بقوة نيرانها التى لم توفر المستشفيات ومراكز علاج المعاقين فضلا عن بيوت النازحين مرارا والذين باتوا الآن فى العراء، مجددا، ولا معين.
ذلك أن كلا من تلك القيادات، سواء فى المشرق أو فى المغرب، لديه أثقال من الهموم والمشكلات التى لا يعرف كيف يتعامل معها، وبالتالى فلا وقت لديه ولا قدرة على التركيز لمواجهة حدث خطير كالحرب الإسرائيلية على غزة وبالتالى إعادة فرض «البند الفلسطينى» كعنوان كان قد جرى طمسه بالقصد لتمويه حقيقة أن الصراع عربى ــ إسرائيلى، مهما بلغت براعة المزيفين فى استخدام «الكيانية» و«الإقليمية» التى تكاد تتخذ بعدا عنصريا لطمس الهوية الأصلية لهذا الصراع.
فغزة هى فلسطين، بعضها بالجغرافيا، ولكنها فلسطين جميعا بالهوية، وهى ــ بالاستطراد ــ عنوان تفصيلى للصراع العربى ــ الإسرائيلى مكتوب بدماء الشهداء وأجداث الأطفال وركام البيوت الفقيرة المهدمة، وسائر المشاهد الثابتة فى وجدان المصريين والسوريين واللبنانيين، أساسا، ومعهم الأردنيون والعراقيون والخليجيون فضلا عن الليبيين والتوانسة والجزائريين والمغاربة وصولا إلى أهل شنقيط ــ موريتانيا.
وأى حرب إسرائيلية هى حرب على كل العرب، يستوى فى ذلك من افترض انه خرج منها بمعاهدة صلح أو باتفاق سرى توهم انه يشكل ضمانة لحماية أمنه القومى، أو بتواطؤ لم يعلن، لكن توغل إسرائيل فى قتل شعب مستضعف فى بقعة صغيرة من أرض فلسطين، محاصرة جوا وبرا وبحرا، يفضحه ويدين أطرافه جميعا، ويحملهم مسئولية هذا الدم المهدور بحيث يستحيل عليهم ادعاء البراءة وخلو طرفهم من المسئولية، بأى ذريعة.
ذلك أن فلسطين مزروعة فى كل أرض عربية، وهى أصل الوجدان العربى العام، بغض النظر عن التقلبات السياسية وطبيعة الأنظمة، القائمة أو تلك التى أسقطتها الثورات أو الانقلابات ودائما بعنوان المسئولية عن فلسطين والواجب المقدس فى حمايتها، أو بعنوان ضرورة تأمين الأمن الوطنى لأى بلد عربى فى وجه الخطر الإسرائيلى المفتوح.
•••
فى غياب الحرب الإسرائيلية يمكن مناقشة «حماس» بل والاختلاف معها على منهجها الفكرى وتغليبها هوس السلطة على واجبها الوطنى ــ القومى فى تسخير قدراتها لحماية القضية المقدسة بتكريس النضال من أجل تحريرها.
أما مع أول طلعة طيران للعدو الإسرائيلى، ومع أول قذيفة مدفعية إسرائيلية تستهدف منازل هؤلاء الفقراء المتروكين للريح فى ذلك الشريط الضيق من فلسطين الذى يشارك فى حصاره العرب إلى جانب العدو الإسرائيلى، فلا بد من إرجاء المحاسبة... لأن الدم المهدور غيلة يفرض ــ بقداسته ــ أن يجمع العرب، والمعنيين منهم مباشرة بحكم الجغرافيا، من حول الضحية بأسلحتها الدفاعية، بالغة ما بلغت أعدادها، قياسا إلى هذه القلعة الصهيونية المعززة بالغطاء الدولى لاحتلالها وعدوانيتها... فضلا عن كونها ترسانة لأسلحة القتل الجماعى متعددة المصدر، إضافة إلى كونها مصنعا متطورا للسلاح الفتاك بدءا بالصواريخ بعيدة المدى (التى تهدد بها حتى طهران) والطيران الحديث جدا، والقبة الحديدية حامية القلعة النووية فى ديمونا والتى لا تخفى القيادة الإسرائيلية أنها مؤهلة لإنتاج السلاح النووي.
تقضى الصراحة القول أن حماس قد ارتكبت أخطاء فادحة فى السياسة. والمنشأ فى الأخطاء، أصلا، يكمن فى الهوية الإخوانية لهذا التنظيم، وهى قد أخذته بعيدا عن قضيته (فلسطين) بوهم أن الشعار الدينى هو السلاح الفعال فى مواجهة الأسطورة الدينية لإسرائيل... وهذا الوهم قاتل لأن إسرائيل مشروع استعمارى مكشوف يستهدف الأمة العربية جميعا بعنوان فلسطين. وأصحابه نجحوا فى استغلال أسطورة المحرقة النازية لليهود فى ألمانيا وبعض أوروبا فوظفوا الدين لخدمة مشروع سياسى واضح الهدف: تثبيت ركائز الاستعمار الغربى، أساسا، بعنوان دينى، وبحكاية اضطهاد عنصرى لأتباع الدين اليهودى. فمن عاشوا عبر التاريخ فى المنطقة العربية، شأنهم شأن أتباع الديانات الأخرى، الإسلامية والمسيحية، لم يلحق بهم أى اضطهاد، لا على أساس دينى ولا على أساس عنصرى. فالعرب، بأكثريتهم الإسلامية، وأقلياتهم المسيحية، يقرون باليهودية كدين سماوى، ويشتركون مع اليهود فى احترام «أنبيائهم»، وهم عند هؤلاء جميعا أنبياء.. أما أسطورة ارض الميعاد واستقدام من اضطهدهم الغرب ليتخذوا منها وطنا قوميا ودولة معادية لأهلها فهذا هو الاستعمار بعينه، خصوصا وقد جاء معززا بتأييد الشرق والغرب معا، وفى لحظة كان فيها الوطن العربى مجموعة من المستعمرات والمحميات الغربية، تحت عناوين براقة لممالك وجمهوريات وإمارات مستقطع بعضها من بعض، تحكمها علاقات عشائرية تستبطن خلافات قبلية وحدودية مستحدثة، فى غياب أى ذكر للوطن بحدوده الأصلية والتى تحددها انتماءات أهله وعمق ارتباطهم بالأرض التى كانت لهم وكانوا فيها على امتداد التاريخ بتقلباته جميعا.
•••
ما لنا وللماضى، لنعد إلى الحاضر.. والحاضر يقول إن إسرائيل تشن حربا مدمرة، بأسلحة دمار شامل، على مخيم واسع نسبيا للاجئين فلسطينيين من أنحاء مختلفة من فلسطين، يعيشون فيه منذ 1948، وقد تكاثروا بعد الحروب الإسرائيلية العديدة على العرب (الاعتداء الثلاثى فى العام 1956، حرب يونيو 1967، حرب أكتوبر 1973) فضلا عن الحرب الإسرائيلية المفتوحة على الفلسطينيين، وتهجيرهم، والفصل بينهم وتشتيتهم بين «الداخل» و«الضفة» و«قطاع غزة»، فضلا عن فلسطينيى الشتات المنتشرين فى دول الجوار العربى، كما فى أربع رياح الأرض.
والحاضر يقول إن إسرائيل لا تقاتل الإخوان المسلمين فى منظمة حماس بل هى تقاتل وتقتل الفلسطينيين عموما، نساء وأطفالا وشبابا وكهولا وشيوخا بغض النظر عن انتماءاتهم، وما إذا كانوا ينتمون ــ أصلا ــ إلى هذا الفصيل أو ذاك من فصائل المقاومة الفلسطينية.
الحاضر يقول أيضا إن إسرائيل تحاول الإفادة من الأوضاع العربية المتردية والمضطربة، بدءا بسوريا وصولا إلى العراق من غير أن ننسى لبنان، وعلى الضفة الأخرى مصر التى تعيش أوضاعا سياسية قلقة وأوضاعا اقتصادية فى غاية الصعوبة، ثم ليبيا التى تكاد تضيع فى غمرة حرب أهلية مفتوحة، وصولا إلى تونس التى لم تستعد هدوءها تماما، والجزائر التى تقاتل الإرهاب على جبهتين: فى الجنوب الذى يمتد من أقصى جنوب ليبيا إلى مالى وجوارها، ثم المغرب الذى تهزه أزمة سياسية ــ اقتصادية معقدة.. وانتهاء بالسلطة الفلسطينية التى يغيبها العجز عن القرار، فلا تجد إلا تصريحات رئيسها الذى بلا دولة محمود عباس، واستنجاده العبثى ببعض المؤسسات المنسية للأمم المتحدة وحقوق الإنسان.
•••
...وتظل مسئولية مصر أساسية. فخطورة المذبحة التى يتعرض لها الشعب الفلسطينى فى غزة أقسى وأفدح تأثيرا من أن يغطيها الخلاف مع حماس.
الأمر يتجاوز حماس إلى الشعب الفلسطينى كله، والى قضيته المقدسة.
والواجب الوطنى والقومى والإنسانى يفرض تجاوز الخلافات السياسية والعقائدية مع حماس والالتفات إلى إنقاذ الشعب الفلسطينى بوقف المذبحة التى يتعرض لها والتى تستهدف كل ما أمكن بناؤه فى غزة فى ظروف قاسية.
ومصر اكبر بكثير من أن تأخذ شعب فلسطين كله بجريرة خلافها مع الإخوان المسلمين.. ففلسطين أغلى وأبقى من أى تنظيم. وبعد ردع العدوان الإسرائيلى، وهو بمعنى من المعانى اعتداء على مصر، بل ولعله ما كان ليستشرى إلى هذا الحد لو أن العلاقة بين مصر وحماس طبيعية، يمكن تسوية أو تصفية الخلاف مع حماس.
إن إنقاذ غزة مهمة قومية وإنسانية نبيلة. وهى بالنسبة لمصر مهمة وطنية مصرية. فالخلاف مع حماس سياسى أما الاختلاف مع إسرائيل فهو خلاف مصيرى يمتد ليشمل الأرض والتاريخ والمستقبل خصوصا، بغض النظر عن اتفاقات الصلح التى عقدت فى ظروف معلومة ونتيجة ضغوط وتأثيرات معروفة.
مصر وحدها المعنية، ومصر وحدها المؤهلة، ومصر وحدها المسئولة.
والموقف المصرى الوطنى ــ القومى ــ الإنسانى هو القاعدة والأساس فى التأكيد على أن العروبة والوطنية (ومن ضمنهما حماية مصر) هما ضمانة الصمود أمام غرور القوة والحروب العنصرية التى تشنها إسرائيل مرة على لبنان، ودائما على فلسطين بعنوان غزة، وبين حين وآخر على سوريا.. وكل ذلك يصيب مصر فى موقعها القيادى وفى موقفها السياسى بقدر ما يصيب أمتها العربية.