كشفت «عاصفة الحزم» انتقال مركز القرار العربي، ولو مؤقتاً، إلى «الأغنى» من بين الدول العربية، الذي يتبدى في هذه اللحظة وكأنه «الأقوى» بذهبه كما بالفراغ أو الضعف في المراكز التقليدية للقرار العربي وهي القاهرة تليها دمشق ثم بغداد.
ولأول مرة، تجرأت المملكة العربية السعودية على إظهار نفسها، ومعها بهذا القدر أو ذاك إمارات منطقة الخليج العربي، كقوة عسكرية قادرة ومؤهلة على اتخاذ قرار بالحرب، ولو جوية ومن أعالي الفضاء ومن دون التورط في مواجهة برية، على بلد «شقيق» و «جار أبدي» ولا مجال لمقارنة إمكاناته المحدودة بقدرات «الأخوة المذهّبين».
ولأول مرة، أيضاً، تشن دولة عربية كبيرة، ومعها ـ بهذه النسبة أو تلك ـ دول الخليج الأخرى، حرباً مدمرة على اليمن، مطمئنة إلى تأييد الدول العربية الأخرى، أو صمتها، متخلية عن حقها في المشاركة بالقرار، رفضاً أو قبولاً، مفضلة اللجوء إلى موقف ملتبس قابل للتفسير على أنه «موافقة بالاضطرار» أو امتناع بالصمت أو الالتفات إلى الناحية الأخرى، بحيث يمكن التبرير في ضوء النتائج.
وحده موقف مصر كان موضع مناقشة لا تخلو من الحدة بين معترض على إظهار التأييد للحرب (ولو بخجل) مفترضاً أنه يسيء إلى دور مصر ووزنها، وبين موافق بالاضطرار وبذريعة أن «مصر اليوم هي غير مصر التي كانت صاحبة الدور القائد والرائد عربياً ومن ثم في العالم الثالث أو معسكر عدم الانحياز الذي انتفت الحاجة إليه بعد سقوط الاتحاد السوفياتي».
ربما هو التاريخ، أو ربما هي الثروات الخرافية التي جاء أوان توظيفها في السياسة في مواجهة الأخوة الفقراء بالحرب، أو ربما هي شبكة العلاقات والصراعات الدولية وتأثيراتها على مسار الأحداث، وتحديداً غداة الإعلان عن قرب التوقيع على «تفاهم التخصيب النووي» بين إيران والغرب كله بالقيادة الأميركية، والتي ربما وجدت فيها المملكة العربية السعودية الفرصة المطلوبة لتسديد الحساب مع الجار المعدم والمشاغب في جنوبها الشرقي، ووضع حد للطموح الإيراني بتوسيع مدى نفوذه عربياً.
في أي حال، فالمؤكد أن الوطن العربي قد تبعثر دولاً ضعيفة ودولاً فاشلة ودولاً غنية، وهي لوحة تجسدها اللقاءات النقالة في إطار جامعة الدول العربية، والتي صار لأقطار الخليج الموحدة في وجه «أشقائها الفقراء» والمبعثرين الصوت المرجح فيها وبالتالي القدرة على فرض القرار المناسب لمصالحها (التي ليست بالضرورة مصالح الأشقاء الفقراء المتطلعين إلى مساعداتها ولو على شكل قروض ميسرة وطويلة الأجل).
وإذا كانت «دولة قطر» قد تمكنت ذات يوم من فرض إرادتها «فطردت» سوريا من جامعة الدول العربية، في غفلة أو تغافل من سائر الأشقاء الفقراء، فمن باب أولى أن تتمكن السعودية ـ وهي الأكبر والأغنى والمتقدمة الآن إلى دور قيادي ـ من استتباع سائر الدول العربية ذات التأثير، خصوصاً وقد نجحت في «تأديب» قطر وإرجاعها إلى حجمها الطبيعي، في الخلف مع مساحة لحق الامتناع عن الإجابة بلا أو بنعم.
بالمقابل فإن الانتفاضات التي ملأت الميادين في العديد من الأقطار العربية، وأساساً في مصر، قد أخفقت في إنتاج التغيير الثوري، خصوصاً أنها كانت أقرب إلى هبّات الغضب تنقصها القيادة المؤهلة والبرنامج الجامع للقوى الشعبية مع خط سير واضح وعملي للتحرك نحو بناء النظام البديل محقق الطموحات والآمال.
والنقاش مفتوح على مداه في مختلف العواصم العربية، ولعله أوضح ما يكون في القاهرة، حيث أُنجِز التغيير على مراحل، فعرفت مصر أربعة «رؤساء» خلال ثلاث سنوات، هي الفترة بين حكم حسني مبارك الذي «ورثه» المجلس العسكري في المرحلة الانتقالية، ثم حكم «الإخوان» الذي لم يعمّر أكثر من سنة، فحكم الرئيس الانتقالي عدلي منصور الذي أدّى مهمته وسلم زمام القيادة إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي تولى بوصفه ثمرة الانتفاضة التي أسقطت «الإخوان» في الشارع.
في القاهرة تستشعر غصة من تحاوره. فهموم مصر ثقيلة إلى حد أنّها قد تمنعها من العودة إلى دورها القيادي الطبيعي (والطليعي)، أقله في المدى المنظور. بل إنها تعرّضها لما لا يليق بوزنها وقدراتها وحقها في الريادة:
ذلك أن مصر محاصرة بتهالك مؤسساتها العتيقة وبحاجتها إلى إعادة بناء الدولة جميعاً، بينما إمكاناتها قاصرة عن إنجاز «التغيير» بالسرعة المطلوبة بل الضرورية. وهذا يُضعف موقفها أمام الدول العربية الغنية القادرة على مدّها بالمساعدات المؤثرة التي تحتاجها في إعادة البناء. وقد اختفت من لغة السياسة كلمة «المساعدات» و «الهبات»، بقدر ما طمست معاني «الأخوة» و «النجدة» وبات لكل قرار ثمنه في الموقف.
ثم إن مصر محاصرة بالفتن والعمليات الإرهابية في جوارها القريب الذي لم يعد آمناً ولا مساعداً: ففي السودان حكم إسلامي برتبة جنرال لدولة متهالكة تمزق جنباتها معارك محتدمة تكاد تتكامل في حرب أهلية. بينما تمزق ليبيا، مقطوعة الرأس، حرب أهلية مفتوحة تتصادم فيها تشكيلات من الإسلاميين، بعضها إخواني (وبالتالي فهي معادية للحكم في مصر وحاضنة لخصومه ومصدر دعم لطالبي الثأر من «الإخوان»، تمدهم بالسلاح والذخيرة)، في حين أن بعضها الآخر يندفع في تطرفه ليغدو داعشياً، ويقدم على «إعدام» العمال المصريين الذين جاءوا ليبيا يبيعون عرق جباههم، بل ويتقصد أن يختارهم من الأقباط ويعمّم فيلماً عن إعدامهم على شاطئ المتوسط في ضواحي مدينة درنة، ليرهب حوالي مليون عامل مصري يكدحون طلباً للرزق في ليبيا البلا دولة، والتي ترتع فيها تشكيلات «إسلامية» يتوزع ولاؤها بين بعض الخليج بعنوان قطر (حاضنة «الإخوان») وتنظيم «القاعدة»، في حين أنها تهدد الأمن والاستقرار في المحيط جميعاً: تونس والجزائر، وتشاد في العمق، حيث يمكنها التواصل مع «بوكو حرام» في نيجيريا.
ثم إن مصر محاصرة ومغلولة اليدين بمعاهدة «كامب ديفيد» مع العدو الإسرائيلي. والمعاهدة قيد من حديد ونفط وغاز، قبل العسكر وبعده، يمنعها من التحرك بالقوة المطلوبة لتطهير سيناء من العصابات الإرهابية التي تستند إلى بيئة حاضنة من بعض البدو الذين احترفوا التهريب بأشكاله كافة: الرجال والسلاح والمخدرات والسيارات التي يسهل تفخيخها وتوجيهها إلى أهداف محددة عبر أنفاق لا تحصى، في البعيد والقريب. هل أفضل من هذه البيئة الحاضنة للإرهابيين سواء انحدروا من ليبيا عبر السودان، أم من السودان ذاته، أم انسلخوا عن فلسطين ونضالها ضد العدو الإسرائيلي ليعملوا في خدمته عبر الإسهام في إزعاج مصر وإظهارها ضعيفة مع عجزها عن تحريك جيشها بحرية وتوكــيد تبعية سيناء للدولة المصـــرية من دون قيود أو شروط تحدّ من حرية حركتها في ارضــها؟!
لقد أصر العرب على قراءة الانتفاضة الشعبية العظيمة في مصر، 25 يناير 2011، على أنها تعبّر عن إعلان بهدير الملايين عن انطلاقة جديدة للثورة العربية التي ستنهي عصر الموات السياسي وفراغ الشارع واستبداد السلطة والتيه بعيداً عن أهداف النضال الوطني والقومي.
فهم العرب الانتفاضة على أنها عودة الروح إلى الأمة بعنوان مصر، وأنها إعلان بانتهاء حقبة سوداء في التاريخ السياسي العربي، وبشارة بحضور «الشارع» أي الشعب في «الميدان» ليملي إرادته بالتغيير وإقامة حكم ديموقراطي مؤهل وقادر على إنجاز المهمات الثقيلة للمرحلة الانتقالية، وإعادة بناء الدولة القادرة.
لكن الواقع غلب التمني، فالانتفاضة، الأولى زمنياً، في تونس، نجحت في إسقاط الحكم العسكري موفرة الفرصة لعودة «المدنيين» إلى السلطة ولو عبر أحزاب سياسية عتيقة، ربما لأن «الجنرال» الذي استولى على الحكم بخلعها منه قدم نموذجاً أسوأ مما سبق لها تقديمه! فهو كان أعظم فساداً وأكثر فردية بما لا يُقاس من «الرئيس المؤسس» الحبيب بورقيبه ذي التاريخ النضالي الطويل قبل توليه السلطة التي استنزفته ومع ذلك رفض مغادرتها حتى بعدما أعجزه الزمن وبقي متمسكاً بالحكم برغم عجزه الجسدي واستيلاء مَن حوله على القرار باسمه، ومنهم الجنرال زين العابدين بن علي الذي أزاحه تماماً من طريق تفرّده.
أما بعد تفجّر الأوضاع في سوريا واندلاع الحرب فيها وعليها، فقد تبخّرت أحلام التغيير بالثورة، وأخذ الناس يراجعون تقديراتهم ومواقع الخطأ فيها، خصوصاً أن «العدوى» وحدها لا تصطنع ثورات، والانتفاضة الشعبية بلا رأس وقوى سياسية مؤهلة لأن تنتج برنامجاً للتغيير يلبي احتياجات الجماهير التي نزلت إلى «الميدان» بدل المرة مرات.
ثم لما انهارت جماهيرية معمر القذافي ليبيا وتمّ قتله بتلك الطريقة الوحشية التي لم تستطع إخفاء اليد الأجنبية فيها، انتبه الجمهور إلى أن ليس كل «انتفاضة» مدخلاً إلى الثورة، وأن الغضب والشعور بالخيبة أو الضيق قد ينتهيان بفوضى دموية يحترق في لظاها الشعب بينما تتهاوى دولة الرجل الواحد كتمثال من رمل.
هل تتمدد «عاصفة الحزم» فتلتهم مشاريع الانتفاضات الشعبية العربية مشرقاً ومغرباً، أم سترتد على قرار توسيع دائرة استخدام القوة بتجاوز الداخل إلى الجوار القريب، مع توقع أن يرتدع «الأشقاء والفقراء» فيسلموا قيادهم إلى «أهل الخير» في حملة «إعادة الأمل» ليصنعوا لهم مستقبلهم بالقروض والهبات فضلاً عن الشرهات الملكية؟
أم أن التاريخ سيتابع مساره.. إلى الأمام؟