طلال سلمان
غطت الدماء المسفوحة في مسلسل الحروب الأهلية التي تمّ تدويلها في أقطار المشرق العربي وبعض المغرب، عيون القادة القائمين بالأمر وكذلك المعارضات المسلحة وميليشياتها متعددة المنبت والتوجه، وإن رفع معظمها الشعار الإسلامي، فتزاحم الجميع على طلب النجدة من الخارج، سواء أكان هذا الخارج دولاً أو منظمات مسلحة على غرار «القاعدة» أو «داعش» التي باتت أقوى ـ بالمال والعسكر ـ من الدول العتيقة القائمة والتي أنهكتها المواجهات العسكرية وافتقاد التأييد الشعبي المطلوب بل الضروري لحسم «حروب التحرير».
ففي سماء العراق وأرضه مجموعة من أساطيل الطيران الحربي تشارك فيه أقوى الدول (أميركا) وأبعد الدول عن المنطقة (اوستراليا) إضافة إلى بريطانيا وألمانيا وبلجيكا (ولو على شكل خبراء).. في حين يتولى خبراء أميركيون إعادة تدريب الضباط والجنود الذين سبق لهم أن دربوهم مرات، من قبل وعبر سنوات احتلالهم بغداد وإسقاط صدام حسين في ربيع العام 2003، لمواجهة «داعش» التي تفرض سيطرتها على معظم الشرق والشمال العراقي بعنوان «الموصل».
وفي سماء سوريا يحلق على مدار الساعة الطيران الحربي الروسي، بهدف القضاء على «العصابات المسلحة» وأقواها وأشهرها «داعش» ثمّ «جبهة النصرة» المتحدرة من «القاعدة».
هل هو التاريخ يعيد نفسه، ولو بشكل دموي؟
ألم يرحب بعض قادة العرب، وبالتحديد الشريف حسين، بالاستعمار الغربي، بريطانيا وفرنسا، كمحرر لهم من دهر الاحتلال العثماني الذي امتد حوالي خمسة قرون، بما يفتح لهم الطريق إلى الاستقلال... بل إلى الوحدة العربية التي نودي بأبناء الشريف حسين ملوكاً لإنجازها؟
كانت المسافة بين المعاهدة البريطانية ـ الفرنسية (سايكس ـ بيكو) لتقاســـم أقطار المشرق مستعمرات، وبين «وعد بلفور» لإقامة دولة يهود العالم على ارض فلسطين وعلى حساب أهلها، سنة واحدة لا غير: المعاهدة سنة 1916 و «الوعد» سنة 1917.
بعد مئة سنة من اتفاق «سايكس ـ بيكو» والذي على أساسه أقيمت دولتاسوريا والعراق وتمّ تحويل لبنان من متصرفية إلى جمهورية وابتُدعت إمارة شرقي الأردن، ومئة سنة من «وعد بلفور» الذي كان الأساس في إقامة «دولة إسرائيل»، نجد أن الدول العربية التي أُنشئت يومذاك ترتج وتكاد وحدتها الداخلية تنفرط، في حين تتبدى إسرائيل وكأنها الدولة الوحيدة في المنطقة فضلاً عن أنها كانت الأقوى من مجموع تلك الدول (سوريا والعراق والأردن ولبنان... وحتى مصر، إذا كانت معها)، كما تشهد حروبها ضد جميعها (1956 و1967 و1973).
وحدها المقاومة الشعبية المسلحة هي، التي استطاعت الصمود في وجه دولة العدوان المفتوح، على العرب جميعاً، إسرائيل، كما أثبتت تجربة لبنان، وإلى حد ما التجربة الثورية المجهضة للشعب الفلسطيني.
في المقابل، فإن دولة واحدة هي إسرائيل تتبدى «دولة عظمى» وتستعرض قدراتها، بلا رادع، لتؤكد أنها أقوى من هذه الدول العربية التي استولدتها معاهدة «سايكس ـ بيكو»، مجتمعة، وتتحكم بمصائرها.. ولعلها الآن تمارس زهوها علناً! حتى روسيا بقيصرها بوتين، اضطرت إلى التفاهم مع إسرائيل، وعبر معاهدة معلنة، حين قررت تقديم الدعم الجوي للنظام السوري. أما الدول الغربية، الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا وصولاً إلى ألمانيا، فكانت ملزمة بإبلاغ إسرائيل خططها في تقديم الدعم لجيش العراق، في مواجهة « داعش».
وحتى إذا أضفنا مصر، بأوضاعها الراهنة، إلى دول المشرق العربي، فإن إسرائيل تظل أقوى من مجموعها، خصوصاً وأن مصر تكاد تكون مرتهنة بموجب اتفاق «كامب ديفيد»، وتحركات جيشها في سيناء مقيدة ومحدودة حتى في مكافحة الإرهاب والإرهابيين.
هذا من حيث واقع التوازنات العسكرية، أما في الجانب الاقتصادي فإن أوضاع الدول العربية المعنية كارثية:
ـ إن سوريا، في هذه اللحظة، تكاد تكون مدمَّرة بمدنها (حلب، حمص، تدمر، حماه، دير الزور، القامشلي) في حين يتخذ «داعش» من مدينة الرقة، على الفرات، عاصمة له، وضواحي دمشق ذاتها، بما في ذلك المدن التي نهضت في غوطتها الفسيحة طالها الخراب والتدمير المنهجي، وكذلك مدن الجنوب درعا والشيخ مسكين وبصرى الخ.
هذا يعني أن دولة سوريا، بحاجة إلى إعادة بناء شاملة قد تستغرق عشر سنوات، أو أكثر. وهي قد خسرت جيلاً كاملاً من أبنائها (أكثر من سبعة ملايين مشرد في مختلف أنحاء العالم، وأكثر من ستة ملايين نازح داخل سوريا). ثمّ إنها قد خسرت مقومات اقتصادها نسفاً وتفجيراً وتفكيكاً للمصانع وبيعها قطعاً. كذلك فهي قد خسرت ثروتها الحيوانية المميزة، ومصادر الطاقة فيها بحاجة إلى إعادة بناء (النفط والغاز)، وإعادة الإعمار متى تمت، ستكون مكلفة جداً (آخر التقديرات يزيد عن ثلاثمئة مليار دولار ـ أي منهبة عظمى).
لم نتحدث بعد عن قضية الوحدة الوطنية وإعادة لمّ الشعب بعناصره ومكوناته المختلفة وصهره مجدداً في بوتقة واحدة موحدة.
ـ كذلك العراق الآن بلد مدمر عمرانه، ثروته الوطنية منهوبة، وشعبه مجوع، نتيجة فساد الحكم والنهب المنظم لموارده (هذا من قبل أن تندفع جحافل «داعش» لاحتلال نصف مساحته بالعاصمة الثانية، الموصل، وبعض منابع النفط والسيطرة على بعض مجرى نهر الفرات وسدوده).
إن هذا العراق المهدَّم، بشعبه المفقر حتى الجوع، والمحرض بعضه ضد بعضه الآخر بعوامل الفتنة المذهبية والعنصرية (سني ـ شيعي، عربي ـ كردي)، ربما يحتاج إلى عشر سنوات أو أكثر لإعادة بناء الوطن والدولة فيه .. هذا إذا ما توفر له حكم وطني صحيح.
ثمّ إن الكرد قد ذهبوا بعيداً في تأكيد «استقلالهم» عن سائر إخوانهم العراقيين العرب، فحولوا «الإقليم» إلى «دولة».
والخلاصة أن العراق، أغنى بلاد الأرض بموارده النفطية والزراعية (نــهران عظيمان دجلة والفرات) يعاني شعبه الآن من الفقر، فضلاً عن افتقاد الأمن، ومــخاطر الفتنة، مذهبية وعنصرية، تتهـــدد وحدته.
أي أن العراق بحاجة إلى إعادة بناء دولته المتصدعة ووحدة شعبه الذي تفسخ شيعاً وعناصر، ما يتطلب أموالاً طائلة، في بلد منهوبة خيراته حتى ليكاد يكون مفلساً، عملته في الحضيض وشعبه جائع.
هل من الضروري التذكير بأن ليبيا قد فقدت وحدة شعبها فضلاً عن دولتها، وثورتها مضيعة الآن، بعضها منهوب من العصابات المسلحة، وأخطرها «داعش» التي أعلـــنت عن وصولها بمجازر عدة، وبعضها الآخر مضيع بين فصائلها المســـلحة والدول التي ترعى الوساطات لتجديد وحدة شـعبها؟
أما دول النفط فمشغولة بهمومها الثقيلة: لقد قررت فجأة، بالقيادة السعودية الجديدة، أن تتحول إلى دول محاربة. وهكذا شنّت الحرب على اليمن المضيع بأسباب فقره والنهب المنظم لموارده طيلة ثلاثين سنة أو يزيد من حكم علي عبد الله صالح.
ولكأنما كان ينقصه المزيد من المصائب، وهكذا فقد حركت فيه نيران الفتنة بين أبناء شعبه (الزيود والشوافع، أو الشيعة نوعاً ما مع السنة).
وهكذا فإن معظم الدول العربية المهددة في وجودها تستدعي الآن الخارج، بشرقه وغربه، لحماية كياناتها السياسية التي «استولدها الاستعمار الغربي» في المشرق (انطلاقاً من «سايكس ـ بيكو»).
كذلك فإن هذه الدول، الأغنى والأفقر، تمد أياديها إلى الخارج بطلب النجدة لمساعدتها على بناء ما تهدم فيها، وهو ما كان يجعلها «دولاً» لها أعلامها وجيوش الاستعراض.
أما إسرائيل، فقد تأكد أنها الدولة العظمى في هذه المنطقة التي لم تعرف قياداتها كيف تصون وجود دولها قوية ومنيعة، وها هي تواصل حكم الأطلال فيها!