حين هوت كفّ الحقد الثقيلة بالصفعة المدوية على وجه المطران غريغوار حداد، أحس كل مَن رأى المشهد الفظيع بالمهانة... ولعل العرق خجلاً قد غمر وجوه الجميع: انتبهوا إلى أنهم، في كل مكان من لبنان، يقفون على شفا كارثة سياسية ـ اجتماعية ـ أخلاقية وطنية شاملة.
صار غريغوار حداد، في تلك اللحظة، وأكثر ممّا كان في أي يوم الناس جميعاً، بفضائلهم وحبّهم للخير وارتباطهم بأرضهم وأهلها، أهلهم.
لم تكن «حادثة فردية». لم يكن اعتداءً شخصياً نفّذه «موتور» ضد الرمز الأنقى للتسامح والحوار المفتوح والمجتمع المدني والتكافل الاجتماعي، بل كان لا بد أن يقرأه كل من رآه مباشرة أو سمع أو قرأ عنه وكأنه اعتداء فظّ على مجمل القيم الإنسانية وعلى بعض مكونات المجتمع الواحد لشعب واحد في وطن واحد.
إنه «التطرف» في موقع الهجوم الشرس إلى حد تدمير الذات.
إنه ذلك النوع من «الأصولية» الذي «يقتل» صاحبه في اللحظة التي يفترض فيها أنه «قتل» خصمه، و «يقتل» الوطن أو العقيدة أو المجتمع بينما هو يفترض أنه إنما كان يعمل لإنقاذه.
إنه العمى المطلق بالتعصب الذي يطلق روح الشر المدمّرة للأفكار والأحلام والروابط وصلات القربى والانتماء الواحد إلى «وطن واحد» له حاضر واحد ومستقبل واحد، بالضرورة وليس فقط بالمصلحة أو بالاضطرار.
إنّها الظاهرة المرضية الخطيرة التي تنهش المجتمع في لبنان، بقدر ما تنهش العديد من المجتمعات العربية الأخرى، والتي تتبدّى وكأنها «ضد الغير»، ولكنها سترتد حتماً ضد الذات فتدمّرها بوهم أنها بذلك إنما تدمر الغلط أو «الخروج على الأصول» أو «الكفر» والانجراف وراء الخطيئة والضلال المبين.
ما احتل التطرف الديني من مساحة إلا تلك التي تعجز «الدولة» عن ملء فراغها أو يخليها تدهور العمل السياسي الذي كثيراً ما اضطر في لبنان الحرب وما بعدها إلى التستر بالشعار الديني أو استعارته ولو مموهاً لكي يبقى على صلة ما «بالجماهير» التي دفعتها الخيبة وهزيمة مشروعها المدني إلى «الإيمان» عائدة إلى «الينابيع» في فجر المسيحية أو فجر الإسلام.
لا ينمو التطرف ولا يتعاظم تأثيره إلا في ظل الإفلاس السياسي: تراجع الدولة كمشروع توحيدي، أو انهيار العقائد والأفكار والمبادئ التي كانت تؤطر الجماهير وتدفعها لبناء جنتها على هذه الأرض.
إن العودة إلى الشعار الديني لا تعني أكثر من الارتداد نحو «المقدس» باعتباره «مخرج النجاة» من الهزيمة السياسية الاقتصادية الاجتماعية ومن ثم الأخلاقية.
فالتطرف هو ابن شرعي للفراغ السياسي، للهزيمة في المواجهة مع المشروع الصهيوني، للاندحار في مواجهة الغرب عموماً، وللعجز عن صياغة مشروع سياسي وطني عربي قابل للحياة.
إن التطرف الديني، وحيثما ظهر، سواء في بيئة إسلامية أو في بيئة مسيحية، هو شهادة على فشل النظام السياسي في بناء «الدولة» بوصفها الحاضنة الأولى والمرجع الأخير لجميع أبنائها الذين سينتقلون معها وبها من رعايا الطوائف والمذاهب (والعشائر) إلى مرتبة المواطنين المتساوين في الحقوق والواجبات.
ليس الاعتداء على المطران غريغوار حداد حادثة فردية طارئة أو خارجة عن سياق التحولات التي شهدها ويشهدها «مجتمع ما بعد الحرب» في لبنان، إذا ما سلّمنا جدلاً بأن «الحرب» فيه قد انتهت فعلاً.
إن الفصول الأكثر دموية في الحرب الأهلية في لبنان إنما كانت بين المتطرفين داخل الدين الواحد، بل داخل الطائفة الواحدة.
... وهي حروب ما زالت مستمرة، وإن كانت البنادق قد غابت عنها.
في هذه اللحظة على المجتمع أن يحمي نفسه، وأن يتحرك ليجبر الدولة على حماية وجودها بتأمينه ضد من يتجرأ على وحدته وحاضره وغده عبر الاعتداء على من يختصرنا جميعاً الآن: المطران غريغوار حداد.
مقتطفات من مقالة نشرت في «السفير» بتاريخ 17/06/2002
قضية المطران ـ الداعية ـ المؤمن حتى ليكاد يكون قديساً على حافة النبوة، ليست بحت «لاهوتية» بمعنى أنها تمسّ وبالتالي تخصّ رجال الكهنوت وحدهم، كذلك فهي ليست «طائفية» بمعنى أنها تمسّ وبالتالي تخصّ الروم الكاثوليك وحدهم،
إنها تتركّز في تلك النقطة التي تتقاطع فيها الأديان والمذاهب والطوائف جميعاً: الإيمان.
كما أنها تتصل بتلك العلاقة الجدلية الثابتة بين طموح الإنسان المشروع لغد أفضل لا بد أن تمرّ طريقه بحريّة الفكر، وبين النزعة المحافظة المعروفة عن رجال الدين عموماً، والتي تصل محافظتها في بعض اللحظات إلى عداء حقيقي للاجتهاد والمجتهدين وللرغبة في الوصول إلى الإيمان بالقناعة عبر المناقشة والاختيار والفكر المفتوح وليس بتقديس السلفية والطقوسية وكل تقليد موروث.
ولقد سبق أن تعرّض العديد من رجال الدين المسيحيين والمسلمين، وفي عصور مختلفة، لمثل ما يتعرّض له المطران حداد اليوم، وصدرت بحق بعضهم أحكامٌ بالحرم أو بالعزل أو بكسر الرتبة. لكن تاريخ الطموح الإنساني المشروع للأمثل والأكمل والأسمى أثبت أسماءهم في سجله كمنارات فكرية أو كعلامات نضالية على الطريق إلى حياة أكرم لبني البشر لا يمكن أن يكون في توفرها ما يغضب الله، جل جلاله، أو يشكل خروجاً على تعاليم الأديان السماوية.