أخيراً، وبعدما وصلت سكاكين سفاحي «داعش» إلى أعناق «الرجال البيض» في أوروبا والولايات المتحدة، فضلاً عن روسيا التي يشكل المسلمون نسبة ملحوظة من أهلها، هرعت الدول المختلفة على أمور كثيرة إلى مجلس الأمن الدولي لتتوافق على ضرورة مواجهة تنظيم «الدولة الإسلامية» في «بلاد المنشأ»، أي المشرق العربي وتحديداً «بلاد الشام».
في هذه الأثناء، وعبر المقارنة اليومية بين إنجازات النجدة الجوية الروسية لسوريا والنجدات الغربية المحدودة، وعبر الجو أيضاً، للعراق، في التصدي لتشكيلات «داعش» القتالية، تبدّى الفارق الهائل بين ضربات الأسطول الروسي المعزز بأقوى أسباب الدفاع الجوي، وبين الغارات اليومية للطائرات الحربية الأميركية خصوصاً والغربية عموماً، والتي تستهدف طوابير مقاتلي «داعش» الذين باتوا يملكون دبابات ومصفحات ومدافع مضادة للطائرات وأسطول نقل برّي غنموها جميعاً من ثكنات الجيش العراقي، أساساً، بعد احتلالهم الموصل ومناطق أخرى، أو من ثكنات الجيش السوري في البادية السورية (تدمر خاصة) أو في الطرق المفتوحة على بوادي العراق بعنوان الرقّة ودير الزور وما بينهما.
في هذه الأثناء أيضاً، وعلى امتداد سنة ونصف السنة من إعلان «الخليفة أبو بكر البغدادي» إقامة دولته الإسلامية في بلاد العراق والشام، كانت العائدات النفطية تصب في خزينة هذه «الدولة» نقداً، سواء أباعها ـ بالواسطة ـ لتجار متعددي الجنسية يبيعونها من بعد للحكومة السورية، أو عبرت قوافله بها الحدود العراقية ـ التركية أو السورية ـ التركية لتباع في تركيا مع حفظ حق الدولة في أنقره في الربح، سواء اشترته لحسابها أو أعادت تصديره إلى من يحتاجه، وصودف أن كانت دولة العدو الإسرائيلي أكثر مَن يحتاجه فبيع لها.
على هذا أمكن لـ «دولة داعش» أن تعد «موازنة» تعتمد في مواردها أساساً على دخلها من بيع النفط المنهوب، عراقياً وسورياً، والمباع من دول كثيرة عبر الوسيط التركي. وقد جاءت أرقام هذه الموازنة «محترمة» وبمئات الملايين من الدولارات، برغم أنها لم تتضمن ما حصّلته «داعش» من ريع الضرائب والرسوم، وفق الشرع(!) ممن أخضعتهم لإجراءات «دولتها».
كانت الدولة في العراق مفككة، أصلاً، يضربها السرطان الطائفي وهو بعض التركة الثقيلة للغزو الأميركي في العام 2003 والذي أسقط الدولة ودمّر مؤسساتها جميعاً والجيش أساساً ونهب بعض ثروتها الوطنية، قبل أن يغذي «الفتنة» التي كانت بذورها كامنة، فاقم من خطورتها احتكار السلطة على امتداد ثمانين سنة على قاعدة مذهبية.
ومعروف أن الاحتلال الأميركي قد غذّى رد الفعل المذهبي حين اجتهد لنقل احتكار السلطة من طائفة إلى أخرى، فاتحاً الباب أمام تصرفات انتقامية وسعت الشرخ بين «المكونين» الأساس في أرض الرافدين ليمكن لهيمنته على الجميع، شيعة وسنة، عرباً وكرداً وأقليات عديدة.
هذه العوامل مجتمعة، مع انشغال السلطة في بغداد بالصراع على السلطة والثروة، قد تساعد على تفسير الاختراق السهل الذي حققه تنظيم «داعش» في العراق، وصولاً إلى الموصل، التي اتخذها عاصمة مؤقتة ومنصة لإعلان «خلافته»، قبل أن يربط بين «ولاياته» في العراق، وبين «الرقة» في سوريا التي كان قد احتلها واتخذها منطلقاً لنشر «الدعوة» وعاصمة مؤقتة في قلب البادية السورية.
كان «الغرب» بعاصمته واشنطن، يتابع هذه الوقائع، ويتردد في اتخاذ القرار بالتدخل. فلما اتخذه جاء ناقصاً، إذ اقتصر على إيفاد مجموعة من الطائرات الحربية، أميركية أساساً، ثم عززها بأسراب نجدة شاركت فيها أستراليا وكندا، قبل أن يضرب «داعش» في قلب فرنسا، بل قلب أوروبا: باريس... وحينها فقط تفاقم الإحساس بالخطر إلى حد إيفاد فرنسا حاملة الطائرات الوحيدة التي تملكها إلى الشواطئ الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، ثم جاء الرئيس الفرنسي شخصياً ليطمئن إلى تموضعها الصحيح ودخولها المعركة بقدراتها الخارقة التي لم تؤثر كثيراً على مسار «الحرب».
أما الروس فقد أحسنوا تقدير الموقف العسكري في سوريا، أساساً، ثم في جوارها العراقي بداية ومن بعده التركي. كان تقديرهم أن زحف «داعش» لن يتوقف إلا بتدخل عسكري حاسم، خصوصاً أن قوات النظام في دمشق باتت منهكة.
في ظل هذه المخاطر قصد الرئيس السوري بشار الأسد إلى موسكو طالباً نجدتها المباشرة والفعالة. وفي ذلك اللقاء الذي لم يحضره أي مسؤول سوري إلى جانب الأسد، اتخذ الرئيس الروسي بوتين قراره الخطير الذي من شأنه أن يقلب التوازنات: لقد قرر أن يتدخل، وعبر الطيران المعزز بحماية فعالة، وبالصواريخ منطلقة من بحر قزوين كما من مدمرات على الساحل السوري.
أحدث القرار الروسي انقلاباً في الموقف الدولي، خصوصاً وقد تعرضت طائراته، في الأيام الأولى لتحرش تركي، إذ أُسقطت طائرة حربية روسية بصواريخ تركية، بزعم أنها قد خرقت الأجواء التركية من دون إذن مسبق، وبعدما رفضت تحديد هويتها.
وتفجّرت أزمة سياسية خطيرة ما زالت مفتوحة على احتمالات عسكرية شتى، خصوصاً وقد ردت روسيا بما يمكن اعتباره عقوبات اقتصادية موجعة لتركيا، ورفضها مختلف التبريرات التركية.
وكان أن تزامن مع هذه الأزمة الخطيرة عمليات التفجير التي تعددت مواقعها في قلب باريس، والتي شملت ملعباً رياضياً ونادياً اجتماعياً فضلاً عن أماكن تجمع أخرى، ذهب ضحيتها مئة وثلاثون قتيلاً ومئات الجرحى... وقد ثبت أن منفذيها ينتمون إلى «داعش».
وصلت النار، إذاً، إلى قلب الغرب وعاصمة النور فيه، ولا بد من التحرك. وبرغم التباعد بين المواقف المعلنة لكل من واشنطن وموسكو، فقد كانت الحاجة تفرض الوحدة في مواجهة الوضع الخطير الناجم عن هذا التمدد غير المسبوق لتنظيم «داعش»، في الغرب... والذي تلاه تفجير في سان فرانسيسكو سرعان ما تبناه «مجاهدان» ينتميان إلى التنظيم ذاته.
تواترت اللقاءات الروسية ـ الأميركية، برغم التباين في المواقف المعلنة. كان الجميع يستشعر خطورة تمدد نيران الإرهاب إلى قلب «عالم البيض». ولعل روسيا التي تعرف يقيناً أن مئات من مقاتلي «داعش» وتنظيمات إرهابية أخرى بينها «النصرة»، قد وفدوا من بعض الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد الروسي.
وبعد سلسلة من اللقاءات والمشاورات اتفق «الكبار» على دعوة مجلس الأمن إلى الانعقاد على قاعدة موقف موحد يتم تجسيده عبر قرار موحد في إطار الشرعية الدولية ويقضي بضرورة المواجهة الجدية والحاسمة لتنظيم «داعش».
في انتظار تنفيذ هذا القرار الدولي، بكل تداعياته على الأنظمة العربية المتهالكة، تغيب فلسطين عن الاهتمام، عربياً بالأساس، وبالتالي دولياً.
تملأ الدماء خريطة المشرق العربي بمعظم دوله الأساسية وعواصمها ذات التاريخ المضيء وأبرزها دمشق وبغداد امتداداً إلى صنعاء التي لا بد منها وإن طال السفر... علماً بأن دولاً أخرى طالها نصيب من العمليات الإرهابية بينها الكويت والسعودية، قبل أن ننتقل إلى دول المغرب حيث تتبدى ليبيا ممزقة الجنبات بالعمليات الإرهابية وتونس، لا تكاد تفرغ من مسح آثار جريمة حتى تتفجر مذبحة أخرى، فضلاً عن مصر التي تتركز العصابات في بعض شمالي سيناء وإن مدت ذراعها في حالات محدودة إلى قلب الوادي.
وتجرف أخبار المذابح التي ارتكبت وترتكب في أنحاء مختلفة من الأرض العربية، الجرائم اليومية والتي يقدم عليها العدو الإسرائيلي مع سبق الإصرار والتعمد ضد شعب فلسطين الأعزل.
ولقد ابتدع هذا الشعب الذي لا تتعبه المقاومة وسائل وأسلحة جديدة لمواجهة عدوه المتعطش للدماء تعطشه إلى السيطرة على ما تبقى لشعب فلسطين من أرضها.
بين ما ابتدع الشعب المقاوم في فلسطين: الدهس بالسيارة، الطعن بالسكين، فضلاً عن رمي جنود العدو بالحجارة أو «تصيّد» بعضهم عند المنعطفات أو في الطرق المعتمة. وهذا يؤكد روح المقاومة إلى حد الفداء لدى هذا الشعب العظيم المتروك لمصيره بين براثن السفاح الإسرائيلي.
اللافت أن جيلاً جديداً من المناضلين من فتية شعب فلسطين قد دخلوا حومة النضال من أجل وطنهم المحتل، وقد زينتهم وأدخلت دماً جديداً إلى الميدان صبايا فلسطين وفتياتها اللواتي ما زلن تحت سن البلوغ، واللواتي أَبدين شجاعة فائقة في التصدي لجنود الاحتلال بسكاكين المطبخ غالباً.
وبينما ينخرط المئات من الشباب العربي، جنباً إلى جنب مع وافدين أغراب من بلاد شتى في مسلسل لا ينتهي من العمليات الإرهابية تستهدف بعض بلادهم في مدنها وقراها بأهاليها المدنيين، وتفجر البيوت ومراكز الإنتاج كمحطات الكهرباء والمعاهد والمدارس وصولاً إلى المستشفيات، فإن فلسطين تغيب عن أذهانهم تماماً.
للمعلومات فقط، فقد سقط خلال الشهور الثلاثة الماضية على أرض فلسطين 126 شهيداً.
نقلاً عن "السفير"