من حق منير العكش أن يزهو بكتابه الجديد في موضوعه الاستثنائي وفي طريقة التناول والعرض الموثق والاستنتاجات التي تهدم بالبيّنة الثابتة أسطورة «أبطال تاريخيين» من أمثال جورج واشنطن، تجاوزوا بتأثيرهم حدود بلادهم الواسعة إلى العالم كله، فإذا هم النموذج الفذ للقادة المطهرين بناة الدولة العظمى ومن موقع يقارب القداسة.
عنوان الكتاب صادم بمفارقاته الغامضة للوهلة الأولى «دولة فلسطينية للهنود الحمر». وعليك أن تلتهم الصفحات بسرعة لتكتشف المقارنة المذهلة التي قصد إليها الدكتور العكش بين غزو الرجل الأبيض ما بات يسمى اليوم «الولايات المتحدة الأميركية»، وغزو الصهاينة فلسطين، فلا دولة اليوم للأهالي الأصليين لتلك القارة الجديدة، كما لا دولة اليوم لشعب فلسطين في أرضه التاريخية. كذلك فقد اعتمد المستوطنون البيض الذين جاؤوا بغالبيتهم من بريطانيا، ومعظمهم من متخرّجي السجون، السياسة ذاتها التي اعتمدها الصهاينة مع الفلسطينيين لطردهم من بلادهم بالمذابح المنظمة وإرهابهم بخطر الإبادة.
يبدأ الكتاب بتوكيد التشابه بين النبي موسى وجورج واشنطن (كفاتحين)، والشهادة الأولى فقرات من رسالة بعث بها جورج واشنطن ـ المؤسس ـ إلى الجنرال هوراسيو غانيس، وقد جاء في نصها:
«حطم قلب بلادهم. امحُ مدنهم وقراهم عن بكرة أبيها. أحرق حقولهم ومزارعهم. اتلف محاصيلهم وكل ما لديهم من مونة للسنة المقبلة. أنزل بهم أقسى العذاب وأفظع الأذى».
لعل هذا الاستهلال «يبشر» بنتائج البحث الذي استغرق سنوات من عمر منير العكش، وهو من أبرز الباحثين العرب في الدراسات الأميركية، فالكتاب «يشخص بمنهجية صارمة وتوثيق دقيق وباء الاستيطان وفواجع الترحيل، وخطر الاستعمار الداخلي وشراك المعاهدات التي لم تحترم أميركا واحدة منها. ثم يبين في النهاية كيف أن «فكرة أميركا» المنسوخة عن فكرة إسرائيل الأسطورية لا تتعارض مع قيام هذه الدولة وحسب، بل تتعارض مع وجود أهل الأرض وأصحابها على وجه هذه الأرض».. (كما إسرائيل وشعب فلسطين تماماً).
«إسرائيل ذلك الزمان نحن الأميركيون. نحن الشعب المختار بامتياز. نحن إسرائيل هذا الزمان، ونحن الذين نحمل تابوت العهد. ـ هرمان ميلفيل»
برغم أن جيمستاون هي أول مستعمرة إنكليزية دائمة في العالم الجديد، فإن التاريخ الرسمي للولايات المتحدة ينأى بنفسه عنها، ويراوغ في ذكرها، ويفضل أن يستهل أمجاد «الفتح» بهجرة ما يسمى الحجاج والقديسين من البيوريتانس (المتطهرين) إلى مستعمرتي بلايموث Plymouth وخليج مساتشوستس Massachusetts Bay (1620 ـ 1630). فمن لاهوت هؤلاء البيوريتانس، وعلى متن السفن التي حملت مستوطني هاتين المستعمرتين، ولدت «فكرة أميركا» المستمدة من فكرة إسرائيل الأسطورية؛ فكرة احتلال أرض الغير، واستبدال شعب بشعب، واستبدال ثقافة بثقافة وتاريخ بتاريخ. هنا، وبهدي من أساطير الإسرائيليين القدامى، بلور القديسون البيوريتانس أيديولوجية «الوجود للموت»، أو «حق التضحية بالآخر»؛ إيديولوجية واضحة وثابتة ودائمة لجريمة طقسية مقدسة ritual crime اسمها الاستيطان.
«فالرب اليهودي الدموي الحاقد على كل حضارات ذلك الزمان وضع على لسان موسى الأمر بإبادة الكنعانيين وجعلها وصية من وصاياه، وهذا ما جعل من إبادة السكان الأصليين سنّة مقدسة مجّد الغزاة الأوروبيون بها ربهم كلما أثبتوا أن يكنعنوا شعباً من الشعوب». هكذا شبّه الفيلسوف الإنكليزي ماتيو تندال ما جرى للكنعانيين بما فعله الإسبان في العالم الجديد، ووصف المذابح التي ارتكبها الإسرائيليون والإسبان معاً بالبربرية ومعاداة الإنسانية، ثم قال: من المؤكد أن الإسبان ـ وهم يبيدون ملايين الهنود ـ كانوا يستمدون شرعية هذه الإبادة وأخلاقها مما فعله العبرانيون بالكنعانيين.
فولتير يكشف الوصية..
منذ كولومبس وهوسه القيامي بتحرير «أورشليم» كانت وحشية الإبادات الدموية في العالم الجديد تستمد شرعيتها وأخلاقها من سنّة إبادة الكنعانيين كما يصورها العهد القديم. اللاهوتيون الإسبان نافسوا الإنكليز في الادعاء أن إسبانيا هي «إسرائيل الله الجديدة»، بل بلغ بهم التأسرل أن زعموا أن وصية البابا لملك إسبانيا بغزو العالم الجديد لا تختلف عن وصية موسى ليشوع بغزو كنعان وإبادة أهلها. أما الطبيعيون الألمان، وفي مقدمتهم جوهن إدلمن Jhohann Christian Edelmann فكانوا أكثر تجذراً في نقدهم للسابقة العبرية في الاستعمار والإبادة، بل إنهم طالبوا بتنقية المسيحية من لوثة هذه العناصر التوراتية التي لطخت العهد الجديد بالدم.
فولتير، أحد ألمع التنويريين الفرنسيين، وضع إصبعه على الجرح القديم الجديد وأسس لفهم ما يعنيه الدين لبدو الصحراء «الذين ينامون ويصحون على حلم نهب وتدمير حضارات الأمم المحيطة بهم حين ركز على البعد البدوي الهمجي لهذه الوصية الدموية بإبادة الكنعانيين ووصفها بالجريمة المقدسة أو بالأضاحي.
«إن هذه الحروب الإبادية التي يمجدها العهد القديم هي حروب بدو متوحشين لا علم لهم ولا ثقافة ولا صناعة ولا تاريخ، يعيشون على النهب والسلب rapine يشنونها دائماً على أمم متحضرة متعلمة تجارية وصناعية تعيش في بلادها منذ أقدم الأزمان».
وهنا يسرد فولتير قصة من العالم الجديد في إشارة ذكية إلى وحشية الوصية بإبادة الكنعانيين:
«أبِد سكان أرض كنعان ولا تشفق عليهم... اقطع حناجرهم! اذبحهم جميعاً رجالاً ونساءً وشيوخاً وأطفالاً وبهائم، ليتمجد الرب بذلك».
ثم يتابع فولتير: «عندها يصرخ واحد من الحضور في وجه الكاهن: لكن هذه وصايا لأكلة لحوم البشر وليست وصايا لقوم مؤمنين».
أسطورة جورج واشنطن
ثم يباشر الكاتب الباحث في كشف الصناعة في رسم أسطورة جورج واشنطن:
«لم ينتظر التاريخ لحظة موت جورج واشنطن ليطوّبه مع الأنبياء والقديسين والآلهة ويجعل منه أيقونة مقدسة، بل قدسه حياً وحاك حوله شبكة من الأساطير ما زالت حتى الآن في سباق مع تاريخ أميركا. زينة هذا الكرنفال التنكري لم تكن مصنوعة لذاتها أو غريبة عن أرضها ومجتمعها، بل كانت مرآة لآمال المستوطنين وصرخة في الظلام لطرد مخاوفهم من الدم الذي يقطر من سكاكينهم. أساطير استمدت لغتها ومعانيها من أدبيات العهد القديم، وسرت على مدى أكثر من مئتي سنة في أثداء كل مرضعة أميركية حتى صارت أميركا هي الرجل والرجل هو أميركا».
لقد كرّست الولايات المتحدة جورج واشنطن «أعظم كائن مقدس تحتفل بميلاده سنوياً في يوم مقدس خاص هو «يوم الرئيس». وفي الذكرى المئوية الثانية لميلاد واشنطن، مثلاً، احتفلت أميركا كما لم تحتفل أبداً بميلاد السيد المسيح حتى في ميلاده الألفي الثاني. في تلك السنة (1932) وفي ذروة ما يعرف بالانهيار الاقتصادي الكبير احتفلت أميركا بميلاد واشنطن احتفالاً استعراضياً لا سابقة له في تاريخ البشرية المعروف: أربعة ملايين و 700 ألف برنامج وطني احتفالي يومياً من 22 فبراير حتى عيد الشكر (24 نوفمبر). وخلال الاحتفال بهذا العيد السعيد تشكلت 800 ألف لجنة مدرسية وكنسية وكشفية تعمل على تبليغ رسالة واشنطن إلى أكبر عدد ممكن من الناس. كذلك زرع المواطنون بهذه المناسبة 30 مليون شجرة تذكارية، ووزعوا أكثر من مليون نسخة من أغنية «واشنطن أبو الوطن الذي نحبه» (Washington Father of the Land We Love) بينما تم توزيع أكثر من 12 مليوناً و 900 ألف نص شاعري عن تفاصيل السيرة الواشنطونية وفضائلها الأخلاقية، ونشرت الصحافة الأميركية خمسة ملايين مقالة خاصة بهذا المولد (بمعدل 15500 مقالة يومياً)... إلخ،
وللحديث بقية ...
رسالة إلى رفيق العمر في «السفير»
أستأذن في نشر هذه الكلمات التي قد تبدو شخصية حميمة، ولكن عذري أنها تتناول العلاقة بين «السفير» والعاملين فيها واستطراداً مع جمهورها.. وإن اتخذت شكل رسالة ودفاع لشريك أول في نجاح «السفير»، هو ياسر نعمة.
يصعب تقبل الافتراق بين من عاشا معاً أزهى سنوات العمر وأصعبها وأعظمها مخاطر وأغناها إنتاجاً ونجاحاً في أقسى الظروف التي عبر فيها هذا الوطن الصغير مجموعة من الحروب الأهلية/ العربية/ الدولية، وكانت الصحافة بين أوائل ضحاياها.
لقد أعطى ياسر نعمة «السفير» مثلما أعطتها نخبة ممن جاؤوها أو اختاروها كرسالة، معظم سنوات عمر الإنتاج، شريكاً معي في الهموم الثقيلة كما في فرح الإنجاز، مسؤولاً عن الإدارة الداخلية والمالية في زمن الشح وصولاً إلى الغرق في الاستدانة و «التشاطر» أو الاعتماد على الرصيد المعنوي لتأجيل الاستحقاق..
وكان طبيعياً أن تلتقي أسرة «السفير» لوداع ياسر نعمة تكريماً لجهده طوال ثلاث وأربعين سنة حافلة بالنجاح والصدمات ومحاولات الاغتيال والتفجيرات التي استهدفت بعد البيت المطابع ثم شخصي وفي وجهي.
لا أكتب رسالة وداع، إنما أكتب شهادة وفاء لتاريخ حافل بالنجاحات والآلام، فلقد آن أن نسلّم الراية لجيل جديد نشأ برعايتنا معاً، واكتسب خبراته بإشرافنا معاً، وأظن أن ياسر يشاركني اليقين بأنه سينجح بإذن الله، لأن زاده من الخلق يوازي أو يزيد على زاده من العلم.
لقد عشنا في قلب الصعب، على حافة الموت، ونجحنا. ولك في هذا النجاح فضل لا يُنكر.. فكنت رفيقي في التعب والسهر والبحث عن الجديد المختلف، واقتحام الصعب وتحمل تبعات الصدام مع الصديق قبل الخصم.
لكل سنة من الاثنتين والأربعين سجلّها الحافل من العذاب من أجل الاستمرار، ومقاومة الغلط. لكأننا عشنا أربعة أعمار أو خمسة أو ربما أكثر في قلب المستحيل، وطوّعناه حتى صار ممكناً.
لقد تحدينا ظروفنا القاسية وانتصرنا: قاومنا الاغتيال والنسف والمصادرة والمنع والاتهامات المتجنّية، واستطعنا أن نحفظ شرفنا، كأفراد، وكمؤسسة التزمت أن تكون للناس، منهم ومعهم. أخطأنا كثيراً، لكننا أنجزنا أكثر، بل يمكننا القول إن استمرارنا ـ المعجزة يشهد لنا بالنجاح، خصوصاً وأننا لم نخن ما نؤمن به.
تحملتني بفوضويتي، حاضراً وغائباً. وحملت أعباء الوقوف على حافة الإفلاس، مراراً وتكراراً، وحماني إخلاصك من كوارث عدة.
.. وها نحن قد اخترقنا حلم الأربعين، وما زال في القلم بقية من حبر، وفي الصدر كثير من الإيمان، برغم التعثر والارتباك والارتجال.
آن للجيل الثاني الذي رعينا تجربته واكتسابه الخبرة المعززة بالعلم أن يتحمل المسؤولية معي وفي حضوري قبل أن تحين لحظة الوداع.
حكاية
سهرة في قلب خداع الذات..
حين وصل كان الجمع المتحدر من الماضي قد تجاوز حالة السكر عائداً إلى ما كان قبل «توبته» في صدر شبابه الزاخر بالآمال العراض.
لم يكن أحد هو ذاته من كان في نهــاره، أو خاصة في ماضيه.
كانوا يفتعلون الضجة غناء في استعادة لأناشيد الصبا لا تتسق مع واقعهم الحالي ولا مع تطلعاتهم مفتوحة الشهية ولو بلا أمل جدي في تحقيقها. لقد مضى عهد الأحلام.
كان كل يلجأ إلى من كان عبر الآخر الذي يبحث عن ذاته، فيلتقي الهاربون عبر أهازيج الحرب التي لما تنته عندهم، فلا هم قاردون على مدّها، ولا هم قادرون على مغادرتها، برغم أن حياتهم النهارية تندفع وتدفعهم إلى نقيض ما كانوه.
أحس بنفسه غريباً، وحاصرته عيونهم بتساؤل فج: ماذا جاء به في هذه الساعة؟! لقد أفسد علينا جوّنا، وها قد عدنا نغرق في آلام الصحو! فليخرج، إذن..
ولقد فهم فقام يغادرهم، مطرقاً برأسه وقد رسم ابتسامة اعتذار خفيفة.
أما «كبيرهم» فكان يخفي ضحكة سرعان ما لعلعت مع إغلاق الباب. لقد التقط له صورة بينهم ومعهم تكفيهم ليقولوا: إنه مثلنا، ولكننا صادقون بينما هو يخادع فيخدع الناس... ها أن بيدنا الآن وثيقة تكشف تزويره!
من أقوال نسمة
قــال لــي نســمة الــذي لــم تُعــرف لـــــه مهــنة إلا الحــب:
ـ كيف أخفي العطر الذي ينشر أخبار العشق. وكيف أرد لها ما نسيت عندي: بعض أهدابها التي ترف حولي كفراشات سكرى في حفل صوفي.. وها أنا أدرج نحو «الحلقة» مردداً اسمها كابتهال.