إذا جاز لنا استخدام المثل الصينى القائل بأن «لكل كلمة صورة» فى فهم كلمة «مصر» ضمن القاموس العالمى، فسنجد أن الصورة الذهنية لهذه الكلمة تنصرف إلى أمة لها ماضٍ مُشرف، وتشير كذلك إلى أمة احتلت المقعد الأول فى فجر الحضارة الإنسانية. ولكننا إذا علمنا أن الصورة الذهنية لأى أمة فى الحاضر، وغالبا فى المستقبل، تتوقف على سمعة صادراتها فى الأسواق العالمية، فإن الصورة الذهنية لمصر، وفق هذا المنظور، تتراجع كثيرا عن صورتها فى الماضى. بل قد لا يكون لهذه الصورة أى ملامح واضحة فى هذا القاموس العالمى.
بكثيرٍ من الحيرة وقليلٍ من الرضا، سيمضى وقت طويل وأنت تبحث فى إحدى الأسواق التجارية العالمية على أى منتج يحمل لافتة «صنع فى مصر». وحالما ستنتهى من هذا البحث، فإنك غالبا لن تجد ضالتك فى هذه الأسواق الفائضة بمنتجات الشرق والغرب، اللهم إلا بعض المنتجات التى يمكن عدها على أصابع اليد الواحدة! فهل التواضع فى الجهد التصديرى للاقتصاد المصرى أمر لا فكاك عنه؟ وهل لا يمتلك هذا الاقتصاد المقومات والقدرات الضرورية لتحقيق التفوق التصديرى؟ أم أنه لديه هذه المقومات والقدرات ولكنه يبددها ويضيعها؟!
بداية، لا خلاف على التواضع الكمى والنوعى للجهد التصديرى للاقتصاد المصرى بصورته الراهنة. فلك أن تتخيل أن الاقتصاد المصرى، بكل إمكاناته البشرية والمادية والفكرية، صدّر سلع وخدمات خلال العام 2016 بقيمة 34.4 مليار دولار فقط. وهى، بالكاد، تمثل نسبة 10% من جملة ما أنتجه، وتمثل نصف ما استورده تقريبا خلال نفس العام وفق بيانات البنك الدولى (بلغت الواردات فى نفس العام 65.5 مليار دولار). كما أن هذا التواضع يبلغ مداه إذا ما حللنا نوعية هذه الصادرات. فجميع السلع الملموسة التى أمكن تصديرها، والتى يمكنك أن تراها على أرفف المتاجر وفى الأسواق العالمية، بلغت فى ذات العام 20 مليار دولار. أما الجزء المتبقى من الصادرات، والبالغ مقداره 14.4 مليار دولار، يمثل الصادرات الريعية وشبه الريعية من الخدمات التى تم بيعها للأجانب على الأراضى المصرية (مثل صادرات قطاع السياحة ورسوم المرور فى قناة السويس... إلخ).
****
أدبيات كثيرة بحثت فى مسببات ونتائج هذا التواضع التصديرى للاقتصاد المصرى، غير أن القليل منها بذل جهدا مضنيا فى تحليل وتحديد فرصه التصديرية المُضاعة، والتى يتعين عليه الاجتهاد فى اقتناصها. وفى الفقرات القادمة، نحاول أن نُعدد بعض من هذه الفرص، كى ننضم لتلك القلة التى وعت الطريق الصحيح لعلاج مشكلة التصدير فى مصر.
وعلى أية حال، ففى جُعبتنا ثمانية فرص ضائعة. وهى فرص نعتقد أن الاقتصاد المصرى يمكنه، بقدر معقول من التهيئة والتطوير، أن ينافس عليها فى الأسواق الخارجية.
أولى هذه الفرص هى صادرات الملابس الجاهزة والمنتجات الجلدية للأسواق الخليجية. فالخبرة المصرية الواسعة فى صناعة الملابس الجاهزة من ناحية، والطلب الفعال، والأذواق المتقاربة فى الأسواق الخليجية من ناحية أخرى، من شأنهما أن يخلقا هذه الفرص، والتى نضيعها الآن بسهولة تدعو للدهشة.
ثانيها هى صادرات الأجهزة المنزلية للأسواق العربية والأفريقية. فبينما توجد شواهد عدة على النفاد المحدود لهذه السلع فى تلك الأسواق، إلا أن القدرات المشهودة لهذا القطاع فى الاقتصاد المصرى، تجعل هناك فرص تصديرية ضائعة فى هذه الأسواق، وخصوصا فى حالة تجمع دول الكوميسا الإفريقى.
ثالثها هى صادرات إطارات وقطع غيار السيارات للسوق الخليجية. فالمتفحص فى أسواق الخليج يستطيع أن يرى اتساع سوق هذا النوع من السلع. لكون هذه السوق تقع على رأس مستهلكى السيارات فى العالم. وبسبب توافر العمالة الماهرة والمواد الخام المتنوعة، وبدرجة أقل التكنولوجيا الملائمة، نعتقد أن الاقتصاد المصرى لديه فرصة مُضاعة فى هذا القطاع التصديرى فى سوق الخليج المفتوحة، نسبيا، أمام صادراتنا الصناعية.
رابعها هى صادرات أجزاء البناء والعمارة للسوق الإفريقية الناشئة. فمستوى التطور المحقق فى الصناعة المصرية فى قطاع التشييد، والمعايير الإفريقية المطلوبة فى هذه السلع، والانخفاض النسبى لتكاليف النقل، تساعد كُلها فى غزو هذه السوق، وتعزز من فرص نجاح المصدر المصرى فى حلبة المنافسة الإفريقية.
خامسها هى صادرات الأدوات المكتبية ومستلزمات الهدايا للسوق العربية والإفريقية. ولأن هذا القطاع يرتبط، أكثر من غيره، بالعادات والتقاليد والثقافة السائدة، ولأنه فى حاجه لنوعية متوسطة التقدم من التكنولوجيا، ويمكن تمويلها من الاستثمار المحلى أو الأجنبى، فإنه يعتبر من أهم الفرص التصديرية الضائعة على الاقتصاد المصرى.
سادسها هى صادرات خدمات التأمين وإعادة التأمين للسوق الإفريقية. ولما كانت هذه الصادرات الخدمية متواضعة بشدة فى وضعها الراهن (لم تتجاوز حاجز 3% من صادرات الخدمات فى العام 2016)، ولما كانت سوق التأمين الإفريقية تتسع باضطراد لمثل هذه الأنشطة المالية، فإن غياب الصادرات المصرية عن هذا القطاع يعتبر هدرا بالغا فى الفرص التصديرية السهلة لإفريقيا.
سابعها هى صادرات خدمات اللوجيستيات البحرية التكاملية (بما فيها قطع غيار ومستلزمات السفن والحاويات) على ضفاف قناة السويس. ولا يخفى ما لقناة السويس من أهمية استراتيجية فى حركة الملاحة التجارية العالمية. ولكنه لا يخفى أيضا أن قدراتها التصديرية ستظل محصورة فى رسوم المرور الملاحى (تدور حول 5 مليارات دولار سنويا)، ما لم ينشئ على ضفتيها أنشطة لوجستية تلبى الطلب الحالى والمحتمل على مثل هذه الخدمات. وإلى أن تنشأ وتتوسع هذه الأنشطة، فنحن بصدد فرصة تصديرية سهلة وضائعة فى آن واحد.
ثامنها هى صادرات الخدمات التعليمية للسوق الإفريقية. فالقطاع الأكاديمى والتدريبى المصرى بقدراته الواسعة، يمكنه أن يغزوا السوق الإفريقية التعليمية، سواء بتصدير الكفاءات الأكاديمية إليه، أو بالترويج للالتحاق بالجامعات المصرية لأبناء بلدان إفريقية مستهدفة بعناية.
ولسنا فى حاجة للتأكيد بأن صادرات المشرق والمغرب تتولى الآن، وبسباق محموم، السيطرة على الأسواق الخليجية والإفريقية التى توجد بها هذه الفرص الضائعة. وأنها، دون ريب، ستكون منافسا غير سهل للصادرات المصرية حال سعيها الدخول والتوسع فى هذه الأسواق.
****
وبطبيعة الحال، فإن العرض المقتضب السابق للفرص التصديرية الضائعة يخلق تساؤلا منطقيا حول كيفية رفع الجهد التصديرى المصرى، للدرجة التى تمكنه من اقتناص هذه الفرص.
وقبل أن نجيب عن هذا التساؤل، وقبل أن نعرض ما لدينا من مقترحات تنفيذية، نود التأكيد على أننا لم نكن بصدد حصر كل الفرص التصديرية الضائعة فى قطاع التصدير المصرى. فتلك مهمة تنطوى على جهد تنوء بحمله مقالة واحدة، أو حتى عدة مقالات متخصصة. ولكننا ارتأينا أنها قد تكون لبنة أولية فى مشروع وطنى طموح لتنمية الصادرات المصرية.
ومهما يكن من أمر، وانطلاقا من إيماننا الراسخ بالقدرات الكامنة للاقتصاد المصرى، فإن نقطة الارتكاز الأولى فى تطوير جهده التصديرى تتمثل فى رسم «خطة إنقاذ» عاجلة ومنضبطة لأنشطة التصدير. كى تضمن هذه الخطة تحديد الإمكانات الكامنة فى الاقتصاد المصرى، ويحدد فيها كل الفرص التصديرية الضائعة. وحتى نضمن بهذه الخطة كذلك تنظيما وتنسيقا وتعاونا بين القطاعين العام والخاص فى أنشطة التصدير. وفى ذلك، نقترح أن تُشكل، بصورة عاجلة، لجنة دائمة للسياسات التصديرية (على غرار لجنة سعر الفائدة بالبنك المركزى)، ومختلفة فى أهدافها وكفاءتها عن التنظيمات التصديرية الحالية، وأن تكون مهمتها الأولى وضع هذه الخطة موضع التنفيذ. وحتى تحصل على الفاعلية المطلوبة، نقترح أن تتبع هذه اللجنة رئاسة الجمهورية بصورة مباشرة.
على أن الدور الحكومى الذى نقترحه فى هذا المضمار لن يقتصر على التخطيط الاقتصادى، ولن يكتفى بتشكيل اللجنة المقترحة للإشراف والرقابة على أنشطة التصدير. فالدعم المالى للصادرات الصناعية يتعين أن يزيد زيادة سريعة وملموسة (نقترح تمويله من رفع إضافى للتعريفة الجمركية على السلع الكمالية). والمساندة البحثية من الجامعات والمعاهد العلمية الحكومية يجب أن تُفعل (نقترح إنشاء معهد وطنى للصادرات). والبعثات الدبلوماسية والتجارية ينبغى أن تُطور من أنشطتها التحليلية للفرص التصديرية الممكنة، وتزيد من جهودها الترويجية للصادرات المصرية.