يحكى أن دولة كانت تعد مهد الزراعة فى العالم، وكانت تمتلك أشهر واد للزراعة المستقرة، وكانت صاحبة أقدم حضارة زراعية عرفها الإنسان القديم؛ إذ بها الآن تعانى من مشكلات عويصة فى قطاعها الزراعى، ليس أقلها التآكل فى الأراضى الصالحة للزراعة، والتردى فى إنتاجية عمالها الزراعيين!
ولأن القارئ يعلم جيدا أن هذه الدولة هى مصر، ولأنه لا يخفى عليه أهمية تطوير قطاع الزراعة كأحد المداخل الرئيسية لتنمية الاقتصاد المصرى، فإننى فى هذه المقالة، أحاول أن أرسم له باقى فصول هذه الحكاية. بداية من سرد أهم المعالم التاريخية للتراجع فى الزراعة المصرية، ومرورا بعرض الأسباب التى وقفت وراء هذا التراجع، ووصولا لطرح عدد من المقترحات الكفيلة بالخروج من هذه المأزق التنموى.
***
من البديهى القول أن الزراعة المصرية ليست فى أفضل حالاتها هذه الأيام. ومن البديهى أيضا القول أن برامج الإصلاح التى تعاقبت على الاقتصاد المصرى فى العقود الأخيرة، لم تعط قطاع الزراعة الأهمية العلاجية التى يستحقها. فأمام ثلاثة عراقيل تاريخية متتابعة، لم يتمكن قطاع الزراعة المصرى من الوصول للمستوى التنموى المنشود، كما تؤكده سلاسل بيانات البنك الدولى عن الاقتصاد المصرى.
ففى ستينيات القرن الماضى، ظهرت أولى هذه العراقيل، والتى تمثلت فى «سباق التصنيع». ذلك أنه نتيجة لمحدودية مصادر التمويل الداخلى والخارجى، ولإيمان الخطة الاقتصادية حينها بحتمية التوسع الصناعى، وما يعنيه ذلك من استئثار قطاع الصناعة بجل الاستثمارات المنفذة، لم يرق الاستثمار الزراعى للمستوى الذى يساعد قطاع الزراعة على النمو المتوازن والمستدام، وظلت مساهمته فى توليد الناتج المحلى المصرى تدور حول 25% خلال تلك الفترة.
ولقد كان «سباق الانفتاح» الذى دشنته السياسة الاقتصادية فى سبعينيات القرن الماضى، واستمر لمطلع التسعينيات، يمثل ثانى تلك العراقيل. فالتخلى التدريجى عن التخطيط التنموى، والتخبط الواضح فى توزيع الاستثمارات العامة على القطاعات الاقتصادية، والاعتماد المتزايد على قطاع خاص ناشئ فى تمويل برامج الاستثمار، وإزالة القيود أمام سيول من الواردات السلعية والخدمية، والجهود المحدودة لتحفيز الصادرات الزراعية والصناعية، تمخض عنها تشوه فى هياكل قطاعات الاقتصاد المصرى، وفى القلب منها قطاع الزراعة؛ كما تراجعت بسببها قدرة هذا القطاع على توليد الناتج، حتى وصلت حصته لنسبة 15% تقريبا من الناتج المصرى.
وفى مرحلة تالية لسباق الانفتاح، ظهرت ثالث تلك العراقيل، متمثلة فى «سباق التكيف»؛ ذلك السباق الذى طبع ــ بدرجات متفاوتة ــ شكل السياسة الاقتصادية المصرية منذ تسعينيات القرن الماضى حتى أيامنا هذه. فالنزول بالاستثمارات الحكومية للحدود الدنيا، وخصوصا الموجه منها لتحديث البنية التحتية لقطاع الزراعة، وتراجع الدور الرقابى للحكومة، ومحدودية التمويل المتاح للقطاع الخاص الزراعى وارتفاع كلفته، والتخفيض المتتالى لقيمة الجنيه المصرى، كل ذلك ساهم فى التراجع النسبى للجدوى الاقتصادية للأنشطة الزراعية، وما تمخض عن ذلك التراجع من تصفية الاستثمارات القائمة فى قطاع الزراعة، وفى تركز الاستثمارات الجديدة بعيدا عنه، وللدرجة التى جعلت حصته فى توليد الناتج المصرى تستمر فى الهبوط، حتى نزلت لما دون 11.5% فى العام 2017.
ورغم أن مؤشر مساهمة قطاع الزراعة فى توليد الناتج يعتبر المؤشر الاقتصادى الأفضل تعبيرا عن الأداء الإجمالى لهذا القطاع، إلا أن التراجع الذى شهده لم يقتصر على ذلك. لكنه شمل العديد من المظاهر الأخرى، كتناقص الأراضى الصالحة للزراعة إذا ما نسبت لعدد السكان المتنامى، وتراجع الإنتاجية الكلية للأراضى المزروعة، وانكشاف القطاع الزراعى على العالم.
ففيما يتعلق بتناقص الأراضى المصرية الصالحة للزراعة، ها هى بيانات البنك الدولى توضح أنه بينما زادت مساحة الأراضى الصالحة للزراعة بنسبة 50% بفعل برامج استصلاح الأراضى المنفذة خلال العقود الست المنصرمة؛ فإننا إذا قمنا بنسبة هذه المساحة الخصبة لعدد السكان، ستنزل حصة الفرد من هذه الأرض لأقل من النصف خلال نفس الفترة. فالكيلو متر مربع الذى كان يلبى حاجة ألف من السكان من المنتجات الزراعية فى العام 1961، مطالب اليوم بتلبية حاجة ما يقرب من ألفين وخمسمائة. ويوضح ذلك التراجع أنه خلال تلك الفترة الممتدة من الزمن، لم تتمكن السياسات الاقتصادية من تحقيق التوازن الضرورى بين معدل النمو فى عدد السكان ومعدل النمو فى مساحة الأرض التى ستشبع حاجاتهم للغذاء والكساء.
وعن تراجع الإنتاجية الزراعية بسبب تراجع مهارات العمالة الزراعية، فحدث ولا حرج. فبالإضافة لانخفاض جاذبية قطاع الزرعة للعمالة، كنتيجة منطقية لانخفاض الأجور الحقيقية به، ونتيجة لمزاحمة باقى القطاعات الاقتصادية له (وخصوصا قطاع الخدمات)، فإن تدنى مستوى التعليم الزراعى المتوسط والعالى، وغياب الروابط السليمة بين مخرجات هذا التعليم وبين سوق العمل الزراعى، وتراجع دور مراكز التدريب المهنى على الحرف والمهن الزراعية، والنظرة الاجتماعية السلبية للمهن الزراعية، قد أفقد العمالة الزراعية شطر مهاراتها، وأفقد القطاع الزراعى شطر إنتاجيته. أما الشطر الثانى فقد تراجع بفعل الركود فى مستوى التكنولوجيا التى يستخدمها العامل الزراعى المصرى. يكفى فى هذا الخصوص أن نذكر أن عدد الجرارات والمعدات الزراعية لكل مائة كيلو متر مربع من الأراضى الصالحة للزراعة تصل بالكاد لعدد 390 معدة زراعية فى العام 2008 (آخر السنوات المنشور عنها بيانات المعدات الزراعية)، وأن استخدام الأدوات الزراعية البدائية ما زال أمرا شائعا ومألوفا فى المزارع الصغيرة بدلتا النيل!
وقد انعكس التراجع النسبى للأراضى الصالحة للزراعة، والتردى فى إنتاجية العامل الزراعى، والتأخر التكنولوجى المستخدم فى المزارع، فى اتساع الفجوة الزراعية المصرية، وفى زيادة العجز التجارى الزراعى والغذائى المصرى. وليس أدل على هذه الحقيقة من التفوق المستمر لواردات القطاع الزراعى المصرى على صادراته. كما أنه ليس بخاف أن مصر ما زالت تعد المستورد الأكبر للقمح فى العالم، مع ما يعنيه ذلك من الانكشاف الشديد لقطاعها الزراعى على هذا العالم.
***
أعلم يقينا أن الصناعة، لا الزراعة، هى التى نهضت سريعا باقتصادات الدول التى تسمى الآن بدول التحول الاقتصادى. وأعلم أيضا أن النهضة الزراعية الحاصلة فى تلك الدول كانت نتيجة للنهضة الصناعية، وليست سببا لها. ومع ذلك، من غير المقبول أن تقايض برامج الإصلاح الاقتصادى فى البلاد النامية المدينة، بين معالجة قضايا التصنيع، وبين التصدى لمشكلات القطاع الزراعى. فعندما تترك مشكلات قطاع الزراعة دون علاج حقيقى، فلن تقلل من قدرته على توليد الناتج فحسب، بل ستخصم من قدرات باقى القطاعات الاقتصادية على توليد هذا الناتج، كنتيجة حتمية لتشابكات القطاع الزراعى مع تلك القطاعات. من هنا، أعتقد أنه لا بديل أمام الاقتصاد المصرى الا أن يتحمل، راضيا، عبء إصلاح قطاعه الزراعى، وأن يبذل فى سبيل ذلك جهدا إضافيا توضحه الخطوات الرئيسية التالية:
التطوير العاجل لأنشطة التخطيط الزراعى. ولا أقصد هنا تطوير خطط الاستثمار الموجه لقطاع الزراعة فقط، بل ينصرف المعنى الذى أقصده، بالإضافة لذلك، إلى ضرورة التخطيط والتنظيم الزراعى للرقعة المنزرعة فى الوادى والدلتا، وفى الأراضى المستصلحة خارجهما. فلا يجوز أن تظل أجهزة وزارة الزراعة واقفة مكتوفة الأيدى أمام الشتات المحصولى الذى تعانى منه الرقعة المنزرعة.
إعادة إحياء الدور الحكومى المساند للقطاع الزراعى. سواء كان الدور الإرشادى والتوجيهى والوقائى للوحدات الزراعية المنتشرة فى قرى مصر، أو الدور الاستثمارى الموجه لتحديث البنية التحتية الزراعية (الترع، المصارف... إلخ) ، أو الدور الرقابى اللازم لوقف نزيف الأراضى الخصبة، أو الدور التعليمى والابتكارى للمؤسسات والمعاهد البحثية الزراعية. ولكى تبث الروح من جديد فى هذه الأدوار الهامة، فهى فى حاجة ماسة لدعم مادى متزايد، يتعين على الحكومة تدبيره من مصادر مبتكرة تقلل العبء على موازنتها.
تحديث وتوسيع دور مؤسسات التمويل الزراعى فى دعم قطاع الزراعة المصرى، كى تصبح أقرب للأنشطة الزراعية المخططة، وأيسر فى إجراءات الحصول على التمويل، وأرخص كلفة مقارنة بباقى الأنشطة الاقتصادية. وتحت مظلة التحديث الواسعة، أرى ضرورة خلق حوافز تمويلية إضافية، تستهدف ترقية إنتاجية الأراضى الزراعية من المحاصيل الرئيسية، وتشجع على إدخال الأنشطة الزراعية ضمن أنشطة الاقتصاد المنظم.
إتاحة التكنولوجيا الزراعية المتطورة، والتى تساعد فى تطوير الإنتاجية الزراعية، وتقلل من الفاقد الزراعى من مياه النيل؛ وفوق ذلك، تعيد استخدام وتدوير المخلفات الزراعية بطريقة اقتصادية وغير ملوثة للبيئة. ولما كان توافر المياه الصالحة للزراعة يعتبر عماد النهضة الزراعية، فإن توطين تكنولوجيا تحلية مياه البحر فى مصر، هو الشرط الضرورى لإتمام التزاوج بين صحرائها الشاسعة وبحارها الممتدة. أما الشرط الكافى لنجاح هذا التزاوج، فيتمثل فى تطبيق التوصيات التى انتهت إليها مئات البحوث العلمية الرصينة فى مجال الزراعة، والتى تنوء بحملها أرفف مكتبات الجامعات والمعاهد البحثية المصرية.
وحتى يمكن وضع الخطوات السابقة موضع التنفيذ، أقترح أن تعتمد الحكومة على منهجين أساسيين. يتمثل المنهج الأول فى فرض ضريبة تصاعدية على المكاسب الرأسمالية المترتبة على البناء على الأراضى الزراعية التى تتخلل التجمعات السكانية فى الوادى والدلتا. على أن تذهب حصيلة هذه الضريبة، حصرا، لتمويل شراء التكنولوجيا الزراعية الحديثة من جانب الوحدات الزراعية القروية. أما المنهج الثانى فهو يعتمد على تعميم فكرة «المطور الزراعى» فى نشاط استصلاح الأراضى. على أن يقف هذا المطور وسيطا فعالا بين الجهاز الحكومى وبين المشتغلين فى نشاط الاستصلاح؛ وأن يتحمل عبء التخطيط والتنظيم الزراعى؛ وأن يتولى إتاحة التكنولوجيا اللازمة لتحلية المياه، والتكنولوجيا اللازمة لعمليات الزراعة الواسعة. وفى مقابل ذلك، يحصل المطور الزراعى على عائد مناسب من الأنشطة الزراعية التى يساهم فى تطويرها.
وعندما تنجح خطط تطوير الزراعة المصرية، وعندما ترتقى إنتاجية الأراضى الزراعية، وعندما يعاد الاعتبار للمزارع المصرى، حينها، وحينها فقط، يستطيع المرء أن يقول بملء فيه أن الزراعة هبة مصر، وأن مصر هبة النيل!
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع