باريس - مادلين سعادة
أكد الفلكي الفرنسي ريجي مورلون أن علم الفلك عرف نقلة نوعية بين القرنين 16و ال ،17 وكانت الأرض بالنسبة للعلماء مستقرة وثابتة في مركز العالم، وكل الأجرام تدور حولها (نظرية العالم المعروفة وقتها) وكانت وجهة النظر هذه في علم الكونيات قوية بما يكفي حتى استمرت لعشرين قرن تدعمها حجج علمية مهمة لا يستهان بها، وفي العام 1543 نشر العالم الفلكي البولندي نيكولاس كوبرنيكوس، كتابه الكبير حول حركة الأجرام، بتبنيه فكرة وجود الشمس وليس الأرض كجسم ثابت في مركز المجموعة الشمسية (طبعاً من دون أن تكون الشمس، كما ظن كوبرنيكوس، بالضرورة في مركز الكون) على أن تتحرك الأجسام الأخرى حولها . وبنظرية مركزية الشمس هذه وقف كوبرنيكوس مناهضاً لتعاليم بطليموس عن مركزية الأرض، التي ظلت وقتاً طويلاً غير قابلة للطعن، ولم تكن هذه المحاولة من كوبرنيكوس سوى بداية لثورة، ولكن كان لا يزال هناك الكثير من العمل .
ويرى مورلون أن الأغلبية العظمى من مؤرخي علم الفلك، يذهبون مباشرة من علم الفلك اليوناني إلى كوبرنيكوس، ليدللوا على أنه أحدث ما يمكن اعتباره "معجزة كوبرنيكوسية" وذلك على غرار "المعجزة اليونانية" في مجال العلوم .
ويؤكد مورلون أن ثمة دراسات مفصلة تثبت أنه ينبغي المرور عبر علم الفلك العربي كي نفهم كيف وصل كوبرنيكوس إلى نظريته حيث كانت عبقرية لتغيير الأصل الذي سار عليه العلماء حوالي 14 قرناً، ولكن كل الأشكال الهندسية التي توضح وتشرح حركة الأجرام كانت تعتمد على باحثين وعلماء كتبوا عن هذا الأمر باللغة العربية في القرن الرابع عشر فكوبرنيكوس اطلع على نظرية الفلكيين المسلمين بمرصد مراغة كالشيرازي (توفي 1179) والأزدي (توفي 1261) والطوسي (توفي 1279) وابن الشاطر (توفي 1375) إضافة إلى اطلاعه على نظرية أرسطاخورس الساموسي (310 -230ق .م) الذي عاش في العصر السكندري والقائلة بمركزية الشمس .
ففي القرن الثاني عشر، انحرف الزرقالي عن الفكرة اليونانية القديمة المتعلقة بالحركة الدورانية المتسقة من خلال افتراض أن كوكب عطارد يتحرك في مدار بيضاوي الشكل، في حين أن البطروجي قدم نموذجاً للكواكب ابتعد فيه عن آليات الإيكوانت (الدائرة التي كان يعتقد بأن كوكب أو مركز فلك التدوير يدور حول محيطها بشكل غير متسق) وأفلاك التدوير، رغم أن ذلك أدى إلى الوصول إلى نظام أقل دقة من الناحية الحسابية . وعلى ذلك فقد رفض فخر الدين الرازي (1149-1209) أثناء التعامل مع مفهوم الفيزياء والعالم المادي في كتابه المطالب، مفهوم أرسطو وابن سينا حول مركزية الأرض في الكون، فإنه قال بدلاً من ذلك إن هناك (ألف ألف عالم) أكثر من هذا العالم وكل منهم أكبر وأضخم من هذا العالم، كما أنه يحتوي على ما يحتوي عليه هذا العالم . "ولدعم نقاشاته من ناحية العقيدة، اقتبس آية من القرآن نصها "الحمد لله رب العالمين" مع التركيز على كلمة "العالمين" التي تعد بمثابة صيغة الجمع" .
كانت مدرسة المراغة ضد علم الفلك البطليموسي فهذه المدرسة كانت عن تقليد فلكي بدأ في مرصد مراغة واستمر مع علماء الفلك من جامع دمشق ومرصد سمرقند، ومثل أسلافهم الأندلسيين، حاول علماء فلك المراغة حل مشكلة الإيكوانت وقاموا بإنتاج بدائل للنموذج البطليموسي من دون التخلي عن فكرة مركزية الأرض، وحققوا نجاحاً أكبر من أسلافهم الأندلسيين فيما يتعلق بتوفير بدائل للنظام البطليموسي أدت إلى التخلص من الإيكوانت والشذوذ أو الانحراف، كما كانوا أكثر دقة من النموذج البطليموسي فيما يتعلق بتوقع المواضع الخاصة بالكواكب، كما اتفقوا بشكل أكبر مع الملاحظات التجريبية، وتشتمل المدرسة على قائمة أهم علماء الفلك مثل : مؤيد الدين العرضي (توفي عام 1266) وناصر الدين الطوسي (1201- 1274) وقطب الدين الشيرازي (1236- 1311) وابن الشاطر (1304- 1375) وعلي القوشجي حوالي 1474 والبيرجندي (توفي عام 1525) وشمس الدين الخفري (توفي عام 1550) وكتب ابن الشاطر، وهو عالم فلكي دمشقي (1304- 1375 ميلادية) وعمل في المسجد الأموي، كتاباً ضخماً اسمه "نهاية السؤال في تصحيح الأصول" والاسم يعني الاستفسارات النهائية المتعلقة بتصحيح نظرية الكواكب) اعتمادًا على نظرية تنحرف عن النظام البطليموسي الذي كان سائدًا في تلك الفترة . وفي كتابه Ibn al-Shatir, an Arab astronomer of the fourteenth century كتب إي إس كينيدي "الأهم أن نظرية ابن الشاطر القمرية، باستثناء الاختلافات الضئيلة فيما يتعلق بالمعاملات، متشابهة تمامًا مع نظرية كوبرنيكوس (1473- 1543ميلادياً)" . ويرى إي إس كينيدي أن اكتشاف نماذج ابن الشاطر المتشابهة من الناحية الرياضية مع تلك الخاصة بكوبرنيكوس من المحتمل جداً أنها انتقلت إلى أوروبا . وفي مدرسة المراغة ومراصد سمرقند، تمت مناقشة موضوع دوران الأرض على يد الطوسي وعلي القوشجي (الذي ولد عام 1403)، وتشبه النقاشات والأدلة التي استخدماها تلك التي استخدمها كوبرنيكوس لدعم مفهوم حركة دوران الأرض، ويرى مورلون أن مدرسة المراغة لم تقم بعمل نقلة نوعية إلى مركزية الشمس ولا يجب أن نبالغ في وضع تأثير مدرسة المراغة في كوبرنيكوس قيد التأمل، حيث إنه لا يوجد دليل موثق لإثبات ذلك التأثير، واحتمالية أن كوبرنيكوس قام بشكل مستقل بتطوير أفكار الطوسي تبقى مفتوحة، حيث إنه لم يقم أي باحث حتى هذه اللحظة بإظهار أنه لديه معلومات حول أعمال الطوسي أو مدرسة المراغة .
على كل حال أخذ كوبرنيكوس هذه الأفكار وقال إن الكواكب تدور حول الشمس في مدارات دائرية وإلى ذلك يرجع تغير الفصول، أما الحركة اليومية البادية فيمكن تفسيرها بدوران الأرض حول محورها دورة كاملة كل يوم، كما أن للأرض أيضاً حركة ثالثة فهي تتغير ببطء في اتجاه محورها وهي الحركة المسماة بالاستقبال(precession) . وضع كوبرنيكوس نظريته في كتابه الشهير "دوران الكرات السماوية Revolution" Orbium Coelestium الذي نشر العام 1543 . وكفر البابا كوبرنيكوس من أجل كتابه لأنه يتناقض مع ما جاء في الكتب المقدسة من أن الأرض ثابتة والشمس هي التي تدور حولها، ونشطت محاكم التفتيش في أعقاب حائزيه ومؤيديه ولكن بعد أن فجر ثورة عارمة أعلنت نهاية العلم القديم وبداية العلم الحديث، وجاء الفلكي الدنماركي تيخو براهه (1536- 1601) ليزود النظرية الكوبرنيكوسية ببعض الأدلة التجريبية انطلاقاً من ملاحظاته وأرصاده التي أجراها على مدى عشرين عاماً ما بين 1576- ،1596 ولكن كان لا بد من انتظار شخص آخر حتى تكتمل النظرية وهو الفلكي الألماني يوهانس كيبلر (1571-1630) صاحب الكتاب الشهير المسمى "الفلك الجديد Astronomia Nova" والذي أعطى لنظرية كوبرنيكوس أسسها وحججها عن طريق قوانينه الثلاثة الشهيرة: المدارات الاهليلجية وتناسب المساحة المقطوعة مع الزمن وتناسب مربع الزمن مع مكعب البعد المتوسط، لكن الإثبات التجريبي النهائي للنظرية والذي بموجبه أصبحت حقيقة علمية سيأتي مع شخص آخر هو عالم الفيزياء الشهير وأب الفيزياء الحديثة جاليليو جاليليه (1564- 1642) الذي أثبث في السابع من يناير/كانون الثاني 1591 بأن الأرض ومعها جميع الكواكب تدور حول الشمس وليس العكس وذلك انطلاقاً من ملاحظته لأقمار المشتري، وبذلك انتهى جاليليو إلى تدعيم النظام الكوبرنيكوسي (مركزية الشمس) بحيث فرض نفسه على الوسط العلمي، وبالرغم من أن الكنيسة أدانته واضطر جاليليو إلى الوقوف أمام محكمة التفتيش وإعلان توبته من الهرطقة تحت التهديد بالقتل فإن التاريخ يشهد له أنه قبل الخروج من قاعة المحكمة قال قولته الشهيرة: "ومع ذلك فهي تدور . . ." (بمعنى أن الأرض تدور حول الشمس) . بهذا انتصر العلم الحديث في النهاية وفرض نفسه خصوصاً بعد الاكتشافات الحديثة بواسطة التليسكوبات والأقمار الصناعية وبعد صعود الإنسان إلى الفضاء .