بقلم: بسمة العوفي
"الجميع نائم، هذا الوقت مناسب تماما لرقصتي الأخيرة " قالت ذلك وهي تنهض من سباتها العميق داخل علبة من القطيفة الزرقاء الناعمة، حيث كانت تتوسد الحرير الأبيض به لساعات طويلة دون هواء بفستان أسود ملتصق بجسدها . تنتظر الإفراج عنها بلمسة من صاحب العلبة، اللعبة، التي تنتظر الأمر كي تخرج من صندوقها لترقص على أنغام موسيقية هادئة، تتهدج معها الأنفاس، تُفرغ ما في جعبة القلوب من ألم، تحمله عنهم وتعود به لمخدعها .. حيث تسهر برفقة الليل الطويل والألم فقط .
ضاق بها الألم في غرفتها الصغيرة، يزاحمها ويدفعها للخروج، وكانت في انتظار الفرصة لترقص لنفسها ربما تفلح في علاج ذاتها كما تفعل مع الآخرين . لكنها اختارت أن تكون رقصة مميزة، مختلفة، أبدية . بموسيقاها الخاصة، بحركات جديدة .. مُنكسّرة، بخطوات أكثر اتساعا ورشاقة .. وهشاشة، بوجع يضفي عليها وهج انفجار بركاني يخرج من العمق .
علي صوت جوليا، تبدأ الخطوة الأولي . خطوة بسيطة، هادئة، من ضعفها تشعر بما تحمله من أثقال، تنسجم مع الموسيقي " شو سرق .. شو سرق .. من قلبي .. ما بعرف شو سرق " تنحني كالزهرة التي تستعد للنوم، للهبوط بجذعها لأسفل لملامسة التراب .. الحقيقة الوحيدة والمصير .
الخطوة الثانية، خصرها منحني لتلامس أصابع قدميها بأطراف يدها، تراها في انحنائها كما زهرة تحاول الانتحار من الشرفة، لتشاهد طفل صغير متوّرد الخدود، يركض من آخر الطريق ليلحق بأبيه الخارج تواً من المنزل منادياً عليه " بابا .. بابا "، فيلتفت إليه الأب بلهفة رغم الإرهاق البادي على وجهه إثر عودته من العمل .
يركض الصغير في اتجاه أبيه .. ويهرول الأب إليه، يحتضنان بعضهما تحت الشرفة .. تتذكر فجيعتها، فتنظر إليهما بأسي .
الخطوة الثالثة تعتدل وترفع يداها لأعلي لتتشابك فوق رأسها، تتذكر كلماته الأولي، يستشف روحها كأنه عليم بما تحويه من ألم . كانت كلماته كالقوانين " محدش ماضي لحد شيكات عشان يضمن إنه يحبه طول العمر "، " النهاردة مثلا ممكن تبقي بتحب حد وهتموت عليه .. بكره هتبقي محايد بالنسبة له تماما "، " الواحد مش بيحب الشخص .. بيحب الإحساس اللي هو مصدقه ناحية الشخص " تنهض قبل أن يري أول دموعها، تعتذر بحجة واهية .. لتنفرد . الخطوة الرابعة، تخفض ذراعيها كمن تحمل طفلا، تتذكر وليدها الذي لن يأت، تحمل فراغه وتدور بيه في الهواء مرات ومرات حول محورها، حتى تجثو على ركبتيها لتلامس الأرض، تدفن الوهم الدافيء ..بصقيع الأرض .
الخطوة الخامسة، تعتدل وتدور في أركان الغرفة كمن تبحث عن شيء، تستند إلي ماسورة معلّقة بأحد الجوانب تماما كراقصات البالية، تتذكر ذلك السور الذي استندت إليه في مشهد مهيب من عدسة الحياة الساخرة، لو أقسموا لها مسبقا أن تلك المشاهد تحدث في الواقع لما صدقت .
ترتدي أسود كلون النيل في العتمة، يتخلله مساحات زرقاء تماما كالإضاءة على جانبي النيل، تقف بالأعلى وتحاول الإمساك بلجام دموعها المتساقطة وتفشل، تفكر في القفز من أعلي كي يكون آخر ما يراه منها جثتها .. وتفشل، تمتزج الدموع بماء النيل لتروي ضفتيه، حيث يقف هو على إحداهما دون أن يعلم أن هناك من يرقبه ويلاحظه كما تلاحظ الأم جنينها في شاشة جهاز تحديد النوع .
الفرق أن الأم ترتبط بوليدها بسعادة غامرة، أما هي فكانت تفتح مجري بينها وبين النيل لتغذّيه بالدموع .
الخطوة السادسة، تمد ذراعها للأمام وذراعها الثاني منطوي كأنها تحتضن شيئا بذراع واحد، تتذكر حين حلمت به مريضا فوق سريره بذراعه المكسورة، تتذكر جيدا دمعاته كلما قال لها أنه لن يستطيع الرسم لمده طويلة، تتذكر بقوّة حين نظرت له طويلاً وصمتت .. وغيرت مكان جلوسها من أمامه، نهضت لتلصق صدرها بظهره، واحتضنته من الخلف، وجعلت يدها تمتد بموازاة مكان ذراعه المكسورة، وهمست له .. الآن تستطيع .
الخطوة السابعة، تقف على أطراف أصابع قدميها، تحاول لمس السماء، لم يكن ملمس تلك السماء سوى وجهه، تتذكره لأنه أطول منها، تتذكر جيدا لحظات وداعهما عندما نظرت إليه واقتربت حتى كادت أنفاسهما تختلط، تتذكره عندما أشاح بوجهه عنها في غضب من يرفض رؤية أخطاؤه، وتتذكر أيضا أنها المرة الأولي التي تشعر ببشرته الخشنة تناديها .. كي تطبع قبلة رقيقة على وجهه .. قبل أن تذهب ! .
الخطوة الثامنة، تلصق ظهرها بالجدار البارد ليمتص سخونته،تتذكر جلوسها طويلا في عيادة الطبيب، بطارية الهاتف فارغة ولا تستطع محادثة أحد، جلست بزاوية المكان بصحبة الذكريات، كانت على وشك البكاء حين قبـّلتها وردة . جميعنا يمسك وردة، قبّلها، يدغدغ بها وجهه ويستمتع بملمسها على خده، لكن هل تعرف كيف تقبّلك الوردة ؟حدث ذلك من تلك الملاك الصغيرة، كانت ترتدي ملابس طفولية بريئة، واستدارة وجهها وضحكتها الصافية العفوية أجمل كل إشراقات شموس الكون، انتزعتها من وحدتها برقة قبل أن تبكي، قبلتها وعادت لحجر أبيها، عندما استغربت الأولي مما حدث وحسبته حلما لا أكثر، انفلتت الصغيرة من بين يدي أبيها مرة أخري واقتربت، قبّلتها ثانية وثالثة .. همست لها " عينيكي بتـ بتـ .. بتعيط ليه ؟"قبل أن تجيب على سؤالها تكون قد منحتها قبلة أخري، واحتضنت كف يديها بكفيّها الصغريتين ! الخطوة التاسعة، ظهرها الملتصق بالجدار يخذلها في الإحتمال أكثر تحاول الفرار من السقوط فترقص كالطير المذبوح، تخطو للأمام، تتذكر جملة صديقتها " موجوعة بـ خذلانك لي "، أحيانا يُجسّد الآخرون ما نفكر به في كلمات !، خطوة أخري .. لا وجع في هذا العالم يضاهي وجع الخذلان .خطوة ثالثة .. لكل وجع مذاقه، للقهر جبروت .. تدور حول ذاتها، وللحزن مرارة .. تنحني ثم ترتفع لأعلي، وللضيق ثورة.. تستند بساق على الآخر، تتخيلهم حولها بوجوههم كراقصي البالية ذوي الأقنعة .. تدور، تتخيل أقنعتهم تتراقص بمفردها حولها في الهواء .. تدور وتدور وتدور، وللألم لذة .. تغمض عينيها وتستسلم تماما، وللخيانة إنكسارة .. تسقط فجأة .
تفتح عينيها على دماء منبثقة كماء زمزم من جرح بإحدي ساقيها كلما حاولت كتمانه جمح أكثر بسبب نشاط أوردتها . عروقها تضخ الدم بغزارة كمن يرغب في التخلص من فائض عن الحاجة . تتكون بقعة حمراء على الأرض تُكمل تناسق ألوان اللوحة الأولية، العلبة الزرقاء، الحرير الأبيض، فستانها الأسود، بقعة من الأحمر القاني . كل الألوان التي تعشقها ..مجتمعه !. الخطوة العاشرة، تسحب جسدها بهدوء، بعد أن شعرت بمساهمتها بقدر بسيط من ذاتها في صناعة لوحة فنية نابضة في المحيط الراكد، تفقد الإحساس بالألم تدريجيا عندما تفقد الأمل من جدواه، تشعر بشي من الراحة، ربما كتلك التي تتبع إنهاك لفترة كبيرة .. حيث يصبح النوم والاستسلام وجبة شهية حتمية، تستجمع ما تبقي من قواها، تزحق للعلبة الزرقاء، مأواها من هذا الفضاء الموحش، تسترخي بداخلها وعلي وجهها طيف ابتسامة ترجو أن تتحقق، وتشد الخيط الداخلي .. لتغلق العلبة .