القاهرة -مصر اليوم
يرد في موسوعة الويكيبيديا تعريف بالمحامي المصري الشهير إبراهيم الهلباوي (1858 - 1940)، بأنه "جلاد دنشواي" في إشارة للحادثة التاريخية الشهيرة التي وقعت في 1906، حتى إن محرر المادة المنشورة في ويكيبيديا عن إبراهيم الهلباوي أرفق مقتبسات من مرافعته كمدعٍ عام ضد المتهمين من فلاحي دنشواي، جاء في المرافعة: "هؤلاء السفلة وأدنياء النفوس من أهالي دنشواي قابلوا الأخلاق الكريمة للضباط الإنجليز بالعصى والنبابيت وأساءوا ظن المحتلين بالمصريين بعد أن مضى على الإنجليز 25 عامًا ونحن معهم بكل إخلاص واستقامة"، وجاء فيها أيضًا: "إن الاحتلال البريطاني لمصر حرر المواطن المصري وجعله يترقى ويعرف مبادئ حقوقه المدنية والسياسية، وإن هؤلاء الضباط الإنجليز كانوا يصطادون الحمام في دنشواي ليس طمعًا في لحم أو دجاج ولو فعل الجيش الإنجليزي ذلك لكنت خجلًا من أن أقف أدافع عنهم".
هكذا حفظ التاريخ، لإبراهيم الهلباوي، أول نقيب للمحامين في مصر، موقعًا في الجانب المظلم من سجلاته. فالتاريخ- الذي عادةً يسجله المنتصر- يلخص إبراهيم الهلباوي في واقعة واحدة حسمت له موقعًا في الضمير والوجدان الشعبي المصري كمتعاون مع الإنجليز وجلاد لفلاحي دنشواي. ولذلك لن تجد له ذكرًا في أسماء الميادين والشوارع والمدارس التي يخلد المصريون أبطالهم فيها.
اقرأ أيضًا:
حفرية لديناصور صغير تنضمّ إلى قائمة المزادات الغريبة على "إيباي"
إلا أن الروائية جمال حسان، اختارت أن ترصد زوايا أخرى من حياة الهلباوي، في روايتها الأحدث "نساء الهلباوي.. سيرة محامي حادثة دنشواي"، الصادرة قبل شهور عن دار "النسيم" للنشر والتوزيع. حيث تسعى "حسان" عبر 237 صفحة و65 فصلًا لرصد حياة إبراهيم الهلباوي في عيون النساء المحيطات به، بدءًا بأمه، ثم زوجاته المتعاقبات، وابنته، وحفيدتيه.
واختارت الكاتبة تقنية البوليفونية أو تعدد الأصوات والرواة، بحيث تحكي كل واحدة من السيدات حكايتها، على أن يكون إبراهيم، أو علاقتها بإبراهيم، أو سعادتها وتعاستها بالقرب منه، محورًا للحكي. وهكذا، توفّر جمال حسان لنفسها مساحات متعددة لتمرير انطباعات مختلفة عن المحامي المصري الشهير والسياسي الراحل إبراهيم الهلباوي، لا كرجل دولة وقيادة حزبية وفقيه قانوني، وإنما أيضًا كزوج وأب وابن وجد، كرجل له بيت وأسرة، رجل يتعب ويحلم ويكافح، رجل يجترح الخير مثلما يفعل الشر، تلك المساحة الرمادية القابعة في صميم روح كل إنسان، مساحة الـ"بين بين"، والتي نجحت الروائية في تمريرها، وعرضت عبر الفصول المتعاقبة الجانب الإنساني الطيب للهلباوي قدر ما أرتنا الجانب الوصولي المتسلق له.
عارض القصر وانتقد باشاوات ووجهاء ودخل السجن دفاعًا عن مواقفه
قديمًا في الأرياف، شاعت مقولة "هو أنت بتبيع لي لسان الهلباوي؟" بين الجزارين ومشتري اللحوم، إذ كانت تلك الجملة تقال من المشتري للبائع كنوع من المساومة، إذا كان لسان الذبيحة غالي الثمن، في إشارة لفصاحة إبراهيم الهلباوي القادر على إقناع القضاة ببراءة أو إدانة من يشاء.
ولذلك ربما، ولأسباب أخرى، ذاع صيت الهلباوي، كمحامٍ بارع، ونصير للمظلومين، مشهور بالجرأة والشجاعة والإقدام حتى أنه دخل في صدامات مع القصر وبعض الباشاوات والوجهاء المحسوبين عليه، وكلفه ذلك الدخول إلى السجن، إلا أنه لم ينكص أو يغير موقفه، وأدى ذلك إلى خلق هذه الشخصية الصلبة القوية التي لا تلين ولا تتنازل عن أفكارها، وفي الوقت ذاته هي شخصية متمركزة حول ذاتها لا تقبل إلا بالصدارة والمركز الأول، ويرى، عادةً، أن الجميع ليسوا سوى أجرام تدور في فلكه، هو شمسهم ومركز مجرّتهم، ويتضح ذلك في معاملته القاسية والجافة لزوجته الأولى زينات الريفية، والثانية حسيبة التي طلقها وأهملها وأهمل دوره الأبوي التربوي تجاه ولديه منها سليمة وكمال. بل يتضح من تركه لأخيه في غياهب السجون على ذمة قضية قتل، محكومًا بالمؤبد، ورفض إبراهيم الهلباوي لمساومة معروضة عليه تتضمن الإفراج عن أخيه، مقابل عدم ترافعه عن الصحفي أحمد حلمي المقبوض عليه في مظاهرات ضد قرار مجلس الوزراء بالعودة للعمل بقانون المطبوعات، وكان تبني الهلباوي للقضية محط سخط القصر والخديوي، إلا أن الهلباوي تمسك بالقضية. يرد في الفصل 28 على لسان أم إبراهيم: "كده برضو يا إبراهيم! تسيب أخوك مرمي في السجن وإنت الهلباوي على سن ورمح! يا ضناي مهو دخل في العركة دي بسبب أرضك".
أطلع المحامين عن المتهمين بكل النقاط التي سيستند عليها في المرافعة
في أحد أيام 1906، ضحّى الهلباوي بالكثير من شعبيته، واختار القفز إلى مركب الإنجليز، وترافع كمدعٍ عام ضد فلاحي دنشواي، لاحقًا، عندما اكتشف فداحة ما أقدم عليه، فقدم العديد من الحجج التي يبرر بها فعلته، مثل أنه كان في طريقه إلى المتهمين ليتولى الدفاع عنهم إلا أنه وجد ياور مصطفى باشا فهمي ناظر النظار ينتظره في محطة القطار ليسبق إليه ويتفق معه على أن يكون محاميًا عن الإنجليز، وحجة أخرى تقول بأنه أراد أن يعمل بمنطق "الإصلاح من الداخل، ولذلك قبل بالعمل في القضية ومن ثم كرس كل مجهوده لتخفيض عدد المحكوم بإعدامهم من المصريين من 51 إلى 10؛ يقول: "سافرت إلى دنشواي وانتظرت حتى انتهت التحقيقات، ورأيت أن حكمدار البوليس طالب بإعدام 51 متهمًا فأبيت إقرار ذلك وانتهى الأخذ والرد بقبول رأيي بأن يقتصر طلب الإعدام على 10 فقط قبل يوم من المرافعة دعوت لغرفتي بشبين الكوم الأساتذة المحامين (أحمد بك لطفي السيد، بين عدة مناصب، ونيل عدة صفقات، إذ كان يشتري الأراضي التي تستهدف الوزارات ضمها للمنافع العامة، ومن ثم يبيعها للحكومة بأسعار مضاعفة، كما خاض كل المعارك الوطنية، التي اندلعت في تلك الفترة وحتى وفاته، وانحاز في غالبيتها لفرق أخرى غير تلك التي كانت تحظى بالرضا الشعبي، ولكن، على الرغم من ذلك، رأت نساء إبراهيم الهلباوي الجانب الخير فيه، ورصدنه عبر 7 سيدات هن أم إبراهيم بواقع 8 فصول على لسانها، والزوجة الأولى زينات بواقع فصلين على لسانها، والزوجة الثانية حسيبة أم ابنيه كمال وسليمة بواقع فصلين، ثم الزوجة الثالثة أينوربان ذات الجذور التركية، وأحب زوجاته إلى قلبه، ولها 11 فصلًا، ومن بعدها ابنته سليمة ولها 9 فصول، ثم حفيدتيه سمية بواقع فصل واحد وفضيلة ولها 7 فصول، ثم الزوجة الرابعة كلستان بفصل واحد والزوجة الخامسة أزاد بواقع فصل واحد.
تبرع لنقابة المحامين بـ 40 فدانًا.. وللجمعية الخيرية الإسلامية بـ620 فدانًا
"كان وفيًا وكريمًا، وترك من ماله نصيبًا لابنه وابنته ولي. كما ترك للخدم بالاسم واحدًا واحدًا، ما يكفيهم من رغد العيش، وكذلك ترك لنقابة المحامين 40 فدانًا. أما أكبر نصيب فقد ذهب إلى الجمعية الخيرية الإسلامية وكان 620 فدانًا". والكلام على لسان "أزاد" الزوجة الأخيرة لإبراهيم بك الهلباوي، والتي عاشت معه 3 سنوات، بعد فشل تجربته مع كلستان.
الحقيقة أن جل زوجات الهلباوي أشدن به وامتدحن كرمه ورقيه، باستثناء حسيبة التي طلقها، والبغضاء بينهما لا تقف عند حدود كونها طليقته التي لم تتفاهم معه في بيت الزوجية، بل لمعرفتها بأن إبراهيم الهلباوي عرف بحكم عمله أن الأوقاف ستنتزع البيت الذي تسكنه من إرث والدها، ولم يخبرها، وتركها لتتلقف المفاجأة. عدا عن ذلك، نرصد في رواية "نساء الهلباوي"، اقتراب هؤلاء النسوة من رجل مشع، فصيح، مديد القامة وقوي البنيان، ثري، وفّر لكل منهن حياة كريمة، سمحت لها بمخالطة علية القوم وزوجات الباشاوات والبكوات والأميرات والأمراء، ووفر لكل منهن جولة سنوية في أوروبا، وعناية طبية فائقة، في أحدث مستشفيات النصف الأول من القرن العشرين في القارة العجوز، كل ذلك كان يجعل المقربات منه مستلبات له تمامًا وخاضعات لسطوته وتأثيره.
أما "أم إبراهيم"، فلم تكن مخيرة في حب ولدها، وهي شخصية مهمة رغم دورها المحدود في تسيير الأحداث، فدورها يكاد يكون تعليقيًا، والجميل فيها أنها كانت تحيل مثالب ابنها إلى مميزات، فعلاقته بالإنجليز ذكاء وتلاعبه بالقوانين شطارة وحيازته للأراضي رياسة وهكذا.. وفي نفس الوقت كانت تضع محاسنه في براويز واضحة تؤطرها وتسجّلها، وجل محاسن الهلباوي تمثلت في صلة الرحم والصرف على الأهل والأقارب والجيران وبعض المحتاجين، إلى جانب استضافته لأحد الأمراء الشبان من آل سعود في فيلته واستضافة بعض الوافدين على مصر من باب الكرم وأيضًا من باب توثيق العلاقات.
نديم جيد ورب أسرة كريم وقبل الدفاع عن الورداني ندما على فعلته
الأمر لا يقتصر على الجانب الشخصي للهلباوي، والذي قيل إنه كان نديم جيد، ورب أسرة كريم، يحرص على الرعاية الطبية والتعليم، وتشير الرواية في فصولها إلى ولعه بحفيدتيه سمية وفضيلة اللتين ماتتا مبكرًا، إذ خطف المرض الأولى وانتحرت الثانية عقب عودتها من سنوات قضتها في إنجلترا للدراسة. ويمتد عرض الوجه الآخر للهلباوي، للتدقيق في كل مواقفه السياسية، وصراعاته مع سعد زغلول، ثم تحالفهما، ودوره مع كل الأحزاب والتكتلات السياسية التي نشأت في تلك السنوات، ومجهوداته في نقابة المحامين، وصياغات الدستور، وحتى محاولته المستميتة للتوبة عن غلطته الكبرى يوم دنشواي، حيث قبل الدفاع عن إبراهيم الورداني، قاتل بطرس باشا غالي أحد قضاة يوم دنشواي، وعن ذلك قال الهلباوي: "جئت للدفاع عن قاتل القاضي الذي حكم على أهالي دنشواي بالإعدام، جئت مدافعًا أستغفر مواطنينا عما وقعت فيه من أخطاء شنيعة، اللهم أني أستغفرك وأستغفر مواطنينا."
أحببت أن تطلعنا رواية "نساء الهلباوي" على شخصية المحامي الشهير، لكن من زاوية ذكورية، كمال ابنه مثلًا، أو شقيقه المحكوم بالمؤبد بعد قتله لأحد الأشخاص في شجار على قوة حراسة أراضي إبراهيم الهلباوي كبير العائلة، إذ أن خضوع كل نساء الهلباوي له كعائل قوّام عليهن وفقًا للمفهوم الديني ومفاهيم ذلك العصر، وقبل أن تنتزع المرأة مكانتها الحالية الآخذة في التطور، سببًا لجعل كل الأصوات النسوية تنظر لإبراهيم من زاوية ملتصقة بالأرض، كاميرا على الأديم تنقل فروع عالية، ولو أتاح لنا المخرج رؤية الشجرة، من كاميرا مربوطة في فروع شجرة أخرى أصغر، أو من أي زاوية أخرى غير زاوية "المرأة المسئولة من قبِل رجل" لربما مكنتنا مثلًا من رصد أسباب الشقاق بين إبراهيم الهلباوي وابنه كمال، القادر على الصرف على نفسه وتدبير احتياجاته، وبذلك لربما اختلفت الرؤية، ولربما رأينا وجوهًا أخرى لإبراهيم الهلباوي.
بيت مرايا يرى الواحد فيه نفسه والآخرين بعشرات الأشكال المختلفة
نجحت الروائية جمال حسان، في روايتها الأحدث "نساء الهلباوي" في خلق عدة أصوات سردية، دون تداخل، ويسهل تمييزهم عن بعضهم البعض، فلإبراهيم الهلباوي لغته الفصحى الجزلة المتماسكة، ولأم إبراهيم لغتها الريفية شبه الدارجة المرصعة بالأمثال التي كانت أحد مراجع المصريين في تصريف أمورهم، ولأينوربان لغة ثالثة هادئة وخافتة وطويلة البال تمامًا مثلها، وهكذا الوضع مع كل راوٍ.
يُحسب أيضًا للكاتبة توزيعها للحكايات على ألسنة الرواة، بحيث تبدأ الحكاية عند أحد الرواة بضمير الـ"أنا"، ثم تكتمل في فصل يحكيه بطل آخر، ويعطف فيه على الحكاية المبتورة من فصل سابق فيكملها بضمير الـ "هو"، لتصبح "نساء الهلباوي.. سيرة محامي حادثة دنشواي"، شبيهة ببيت المرايا، الذي يرى الواحد فيه نفسه والآخرين بعشرات الأشكال المختلفة، وبلا يقين حول الحقيقة والأصل
وقد يهمك أيضًا: