برلين - جورج كرم
تفقد المدن سحرها عندما ترحل حجارتها القديمة عن شوارعها ومبانيها، عندما ينحر أهلها التاريخ باسم العمارة الجديدة ويدفنون ذاكرة ماضٍ ساهم في ولادة حاضر أمة، ليست أجمل مدن العالم ولا أعظمها تلك التي تستقطب السياح وتحيي في دواخلهم مشاهد لحيوات شعوب عاصرت حقبات زمنية حافلة بأحداث عالمية، بل لأنّ المدن كالبشر بعضها يبهرك للحظات قليلات، وبعضها يترك فيك لمسة حب تدغدغ ذاكرتك لتزورها من جديد، نورمبرغ المدينة الألمانية النائمة في حضن الطبيعة الخضراء واحدة من تلك التي لا تُنسى.
- تاريخ نورمبرغ
قبل التطرق إلى تاريخ المدينة الأشبه بقرية صغيرة محافظة، لا بدّ من القفز أولًا إلى حقبة الحرب العالمية الثانية، فنورمبرغ تعد مدينة فريدة بين مدن العالم، وبعد أن كانت مركزًا رئيسيًا للنشاطات النازية منذ تولي أدولف هتلر السلطة عام 1933، وفي ساحاتها نظّم الحزب استعراضاته العسكرية ومؤتمراته السنوية، كُتب فيها فصل جديد من تاريخ العالم، واختارتها قوات التحالف لتكون مقرًا لمحكمة دولية لمحاكمة النازيين.
قبل 72 عامًا، شهدت القاعة رقم 600 في المحكمة، وقائع المحاكمة الشهيرة لقادة الحرب النازيين، ونقلت شاشات التلفزيون أحداثها إلى العالم كله، وعلى الرغم من تدمير 90% من مبانيها خلال الحرب، فما تزال هناك عمارات نازية تدل على أهمية المدينة في فترة الحكم النازي.
وبالعودة إلى القرنين الـ15 والـ16، شكّلت نورمبرغ مركز عهد النهضة الألمانية، وفيها امتزجت تقاليد النهضة الإيطالية مع القوطية الألمانية، هي مسقط رأس الرسام والنّحات ألبرخت دورر، وتحتضن كثيرًا من أعماله، منها لوحة الرسل الأربعة، بطرس وبولس ومتى ويوحنا، وفيها ولد هانس ساكس الشاعر والمسرحي الألماني، وبيتر فيشر الأكبر، المثّال الذي اشتهر بصناعة تماثيل من البرونز، وقد كرس 15 سنة من حياته وحياة أبنائه الخمسة لإكمال رائعتهم النصب التذكاري للقديس سيبالدوس في سيبالدوسكيرش، القديس الحامي لنورمبرغ.
وخلال حرب الثلاثين عامًا التي مزقت أوروبا بين عامي 1618 و1648، وقد بدأت كصراع ديني بين الكاثوليك والبروتستانت وانتهت كصراع سياسي من أجل السيطرة على الدول الأخرى، أنهكت الحرب معظم الولايات الألمانية، وانتشرت خلالها المجاعات والأمراض وهلك العديد من سكانها، تدهورت أوضاع نورمبرغ، ولم تستعد أهميتها إلّا في القرن 19 بوصفها مدينة صناعية، وصلت بينها وبين مدينة فورت أول سكة حديدية في ألمانيا عام 1835، ودخل إليها الإصلاح الديني منذ عام 1525.
- جولة في نورمبرغ
يسهّل موقع نورمبرغ المركزي، الوصول إليها، هي ثاني أكبر مدن بافاريا والمدينة الرئيسية في منطقة العاصمة، تقع على ضفتي نهر بيغنيتز، الذي ينبع على بعد 80 كيلومترًا شمال شرقي المدينة، ويخترقها من شرقها إلى غربها لمسافة 14 كيلومترا، ويتفرع في قلب المدينة إلى قنوات عديدة.
مصممة بهندسة تجعل السائح يسير في شوارعها مستخرجًا من كل شبر منها متعة مشاهدة مناظرها الخلابة في أمسية صيفية تتوزّع المطاعم والمقاهي على ضفاف قنواتها، وللسائح أن يختار المكان الذي يريد لتناول الطعام أو القهوة، وللمدينة وجه فريد لنماذج الثقافة التقليدية والحديثة، وتعتبر واحدة من المدن الألمانية وأكثرها رومانسية.
وعلى الرّغم من أنّ المدينة بشكل عام، تنتمي إلى المدن الكبيرة بالمساحة، فإنّ زائرها يشعر بأنّه يزور قرية صغيرة للحميميّة التي يوفّرها تناغم الطبيعة مع البناء، فزيارة المدينة لا تُنتسى؛ لما تترك لدى السائح من أثر يدفعه للعودة إليها ثانية، في طبيعتها الساحرة بخضرتها ومياهها وأنهرها وجسورها وعمارتها، مزيج من الثقافة والتاريخ، فالمدينة تنبض بأكملها بالحياة والإثارة والرومانسية، شوارعها مكتظّة بالمشاة، وفي كل مكان تطالعك الجسور والمقاهي والحانات المنتشرة على أرصفة طرقاتها الحجرية.
لا يمكنك زيارة نورمبرغ، من دون أن يعود بك التاريخ إلى أجواء القرون الوسطى (الفترة التي امتّدت من القرن الخامس حتّى القرن الخامس عشر الميلادي)، كما لا يمكن للسائح أن يمرّ بها من دون استحضار السنوات الأخيرة من الحرب العالمية الثانية التي دمّرت المدينة بالكامل، من قبل سلاح الجو الملكي البريطاني، فالذهاب إلى نورمبرغ يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتاريخ الحروب التي شهدتها.
- معالمها التاريخية
للمدينة كنز من الأعمال الفنية التي لم تمسّ بسوء، على الرغم من الحروب التي شهدتها، وفيها سوق رئيسية تعرف باسم (Hauptmarkt)، تتجمع بها معالم وكنائس تاريخية، تتحوّل في فترة أعياد الميلاد ورأس السنة إلى معرض ميلادي كبير، حيث تتلاصق خيم كبيرة، يحضّر فيها أصحابها أنواعًا مختلفة من الأطعمة التي تشتهر بها المدينة والحلويات الخاصة بالعيد، إلى جانب تنظيم حفلات موسيقية تتناسب والمناسبة، ونشاطات عديدة للكبار والصغار، ولمن يرغب في زيارة نورمبرغ في هذه الفترة من السنة، لا بدّ له أن يحجز مسبقًا ليتمكن من إيجاد مكان له في الفنادق قبل أن تكتظ بالسياح من جميع أنحاء العالم.
أمّا خلال باقي فصول السنة فتعود السوق إلى حالها اليومي، وتتوزّع أكشاك بيع الفواكه الطازجة والخضار والخبز والجبن واللحوم والزهور الملونة فيها، كما أنّ في السوق كشكًا لبيع الفلافل، كتب عليه مأكولات لبنانية، وفي الممرات الضيقة القريبة من السوق وحوله، تنتشر المحلات الصغيرة حيث تباع الثّياب والأحذية والساعات والمجوهرات والتحف التذكارية وأكثرها يُظهر أماكنها التاريخية ويروّج لما تشتهر به المدينة من مأكولات خاصة بها ومشروبات.
- كنيسة السيدة العذراء
الكنيسة مثال للطراز القوطي، تحتوي على تماثيل وأعمال فنية كثيرة، تعود إلى القرون الوسطى، بُنيت في السوق الكبيرة، تتألف من قاعة كبيرة وممرين ومنبر للإمبراطور، تحتوي على خلجان تسعة تدعمها أربعة أعمدة، ويسمى الدور العلوي بالطابق الإمبراطوري أو طابق القديس مايكل، وهو مفتوح على الصحن عن طريق رواق فيه أقواس مزخرفة، وتتزيّن عضادات الكنيسة بالزخارف والمنحوتات، من أبرز سماتها ساعتها الميكانيكية، وتعتبر تخليدًا للثور الذهبي وقد وضعت فيها عام 1506.
- قلعة القيصر
تعتبر قلعة القيصر (Kaiserburg)، من المعالم السياحية الرائعة في نورمبرغ، وهي تتألف من ثلاث قلاع تشكل حصنا يقع على قمة تلّة في وسط المدينة، وتتمتع بإطلالة رائعة عليها، وللأسف فإنّ الزائر لا يستطيع رؤية كل ما فيها من الداخل، باستثناء البئر والبرج.
- المتاحف
لعشاق التاريخ والفن والأدب، قسط وافر من المتاحف، لعلّ من أشهرها متحف محاكمات نورمبرغ الذي لا يزال يحتفظ بالكثير من الوثائق التاريخية من صحف وصور وتسجيلات صوتية وبصرية للحرص آنذاك على التوثيق الدقيق لكل تفاصيل هذه المحاكمة التي حضرها عدد كبير من مشاهير العالم ومن كتاب وصحافيين وسياسيين، وعلى من يرغب في زيارة المتحف التأكد مسبقًا من الأوقات التي تفتح فيها القاعة رقم 600 أبوابها أمام العامة، ويضاهيه شهرة "المتحف العالمي الشهير"، وهو من أكبر متاحف الفن الألماني، وواحد من المؤسسات الثقافية الرائدة في العالم، يحتضن أول كرة أرضية وضعها مارتين بهايم، وأول ساعة جيب من صنع الفنان بيتر هنلاين، بالإضافة إلى معروضات أخرى تتنوّع بين الأزياء الريفية التي تعود إلى حقبات ألمانية قديمة، كما يمكن للزائر التعرف على بيت الرسام ألبرخت دورر، للتعرف عن قرب على جوانب حياة الفنان وأعماله.
- رقي الضيافة
يتوافد نحو مليوني سائح كل عام إلى نورمبرغ، وهي من المدن الأولى في حسن الضيافة والسياحة على لائحة التصنيف بألمانيا، وباتت المدينة وجهة جذب للسياح القادمين من الدول العربية، تتميّز المدينة بسهولة الوصول إلى كل ما تحتضنه من معالم أثرية ومتاحف ومطاعم وأماكن التسوق في البلدة القديمة، مشيًا على الأقدام.
ومن السياحة التاريخية الشاهدة على عظمة المدينة، ينتقل الزائر للتعرّف على ما يرضي أطفاله، فمن منهم لا يرغب في زيارة حديقة الحيوانات؟
في نورمبرغ، حديقة تيرغارتن التي تعدّ واحدة من أروع الحدائق في أوروبا، التي تضمّ أنواعًا مختلفة من الحيوانات تعيش داخل الغابة، وما فيها من جمال طبيعي وخضرة وزهور وبرك مائية، وفي هذه الحديقة توجد بركة سباحة الدلافين (دلفين لاغونه) الوحيدة في جنوب ألمانيا، حيث تسبح الدلافين في الهواء الطلق.