دمشق - مصر اليوم
تعد مدينة تدمر "لؤلؤة الصحراء" تلك المدينة التي برزت من بين رمال الصحراء واحدة من أجمل المواقع الأثرية في العالم بسحرها وهيبتها وغموضها، تتوسط تدمر الطريق ما بين البحر الأبيض المتوسط والجزيرة العربية، التي كانت تشكل ممراً إجبارياً، فعلى الرغم من اتساع بادية الشام فلابد من المرور بها لتشكل بذلك صلة وصل بين الشرق والغرب وجسراً يصل بين إفريقيا وآسيا.
تعتبر تدمر واحدة من أهم محطات طريق الحرير التجاري وكانت تسمى بوابة طريق الحرير حيث أسهم التدمريون في تحقيق سلامة القوافل التجارية وفرضوا الأمن في تدمر التي كانت القوافل تمر بها وتحمل البضائع منها وإليها وعرفوا كيف يحافظون على النظام في البادية حيث غدا عبورها آمناً بفضلهم بدلاً من المرور بأطرافها، وأسهم ذلك في اختصار المسافات وتوفير الزمن والنفقات وحرصت القوافل التجارية على المرور بتدمر واتخاذها إحدى المحطات المهمة خلال رحلاتهم التجارية فازدهرت المدينة بسبب ذلك وتم شق الطرق وتطورت وفقاً لمقتضيات تسيير القوافل وتم إشادة المنشآت الاقتصادية والخدمية المكملة والضرورية، وأصبحت تدمر مقصداً للتجار من كل المناطق المحيطة بها ونشطت التبادلات التجارية وجنى التدمريون من وراء ذلك أرباحاً طائلةً، ما ساهم في تحويل تدمر إلى أكبر مخزن للبضائع في المنطقة وشكلت تدمر أقدم منطقة حرة للتجارة في العالم فقد ورد في الصفحة 58 من الحوليات الأثرية السورية– المجلد الأول عام 1951 أن تدمر كانت تتقاضى رسوماً عن البضائع التي كانت تباع فيها وبرزت تدمر كأهم المراكز التجارية في تلك الفترة وساهمت بشكل كبير في توفير احتياجات المناطق المحيطة بها.
إقرأ أيضًا:
مدينة تدمر السورية تستعد لاستقبال السياح خلال صيف 2019
يعتبر طريق الحرير الطريق التجاري الأقدم على مستوى العالم القديم وساهم في تعزيز الأهمية البالغة لسورية ولموقعها الإستراتيجي الذي يعتبر صلة وصل بين الشرق بالغرب والشمال والجنوب.
وعند الحديث عن طريق الحرير فلابد لنا من أن نوضح نقطة في غاية الأهمية وهي أن طريق الحرير لم يكن يستخدم لحركة القوافل التجارية والتبادل التجاري فقط بل كانت تنتقل خلاله الحضارة والعلوم والثقافة والفنون والتمدن.. ولم يكن مجرد مسار يتم عبره نقل البضائع بل ساهم في بناء حزام ثقافي ثري وانتقلت خلاله المخرجات الحضارية والمكتشفات التي ساعدت على الربط بين الشرق والغرب، فعلى سبيل المثال تتكون أحرف لغة جزر المالديف من نوعين النوع الأول مستمد من العربية ويشتمل على ثمانية عشر حرفاً: التسعة الأولى منها عربية على حين الأخيرة منها تعود إلى أصل هندي، كما أن الكتابة الآرامية لم يقتصر انتشارها نحو الهند فقط فقد كشفت التنقيبات الأثرية شرقي تركستان عن مخطوطات كتبت بلغات مختلفة تشابه إلى حد كبير الكتابة الآرامية في آسيا الوسطى حيث بينت الأبحاث أنها تعود إلى الفرع الآرامي التدمري المعروف بزخارفه.. وهناك أمثلة كثيرة تثبت أن طريق الحرير الذي كانت تدمر من أهم محطاته كان مساراً ذا اتجاهين للثقافات والعلوم والفنون والعادات.. وكان له أيضاً وظائف عديدة وأدوار مهمة ومتنوعة فمن خلال هذا الطريق كان يتم حراك واسع النطاق بالسياسة والاقتصاد بين مختلف البلدان التي يمر بها، ومن هنا فقد أسهمت تدمر بتشكيل تنوع حيوي وتلاقح ثقافي عز نظيره وشكلت بوتقةً صهرت ضمنها ثقافات العديد من حضارات الشعوب والأمم التي عاشت أو مرت بها خلال تاريخها الطويل من مختلف مناطق العالم، كما شكلت تدمر حكمة الشعوب التي استوطنت البلدان التي تقع على جانبي طريق الحرير وأصبح طريق صداقة وتعارف يربط بينهم ووسيلةً لتبادل الفنون والعادات والتقاليد بين أبناء تلك البلدان إضافة إلى ذلك فقد كان يعزز ويدعم ثقافة الحوار ويقرب وجهات النظر ويخفف حدة العداوات بين الشرق والغرب، كما ساهم هذا الطريق بازدهار كل المناطق التي تقع على جانبيه فعلى سبيل المثال كانت القوافل التجارية تسير خلال النهار فقط بسبب زيادة احتمال تعرضها للسلب والنهب ليلاً من قطاع الطرق لذلك فقد نشط بناء الخانات على مسافات متقاربة لا تزيد على مسيرة يوم واحد مع ما يرافق تلك المباني والمنشآت من احتياجات خدمية ومعيشية، واستمر دور طريق الحرير فترة طويلة امتدت من قبل الميلاد وحتى نهاية القرن الخامس عشر الميلادي ومما لا شكّ فيه أن رحلات طريق الحرير قد أغنت ذاكرة شعوب هذه المناطق وأثرت حضاراتها وقد يستفسر بعض القراء عن سبب اعتبار تدمر أهم مركز تجاري في المنطقة وما القيمة المضافة التي يضيفها إلى المدينة؟ فإننا نبين أن التقاء القوافل التجارية فيها هو حالة حضارية متقدمة إذ إن احتكاك بعض الشعوب والمجتمعات ببعضها الآخر هو فرصة مهمة للتعارف والتمازج وتبادل المعارف والخبرات والثقافات والعادات والتقاليد وهو يمثل تكاملاً إيجابياً على مختلف الصعد وضرورة حياتية لا غنى للشعوب المتحضرة عنها، وميزة التبادل التجاري القديمة لدى السوريين صبغتهم بصفات التجار وهي الانفتاح على الآخرين والمرونة والواقعية والتكيف مع مختلف الظروف واستيعاب الآخر من مختلف النوعيات وعدم التحجر والانغلاق على الذات لأن التاجر لن يتمكن من ترويج بضائعه إن لم تتوافر لديه هذه الصفات وهي – برأيي الشخصي– من الأسباب المهمة التي أسهمت في صمود سورية وعدم كسر إرادة السوريين على الرغم من الظروف الصعبة التي مرت عليها خلال تاريخها المديد وهي تضمن تطور المجتمع وبقاءه واستمراره وهذا ما كان متوافراً في تدمر.
ولقد ساهمت مجموعة من الينابيع الدائمة في تعزيز دور طريق الحرير التجاري واستقطاب فعاليات اقتصاد القوافل والعبور خلال البادية بسلامة من دون الخوف من انقطاع المياه عنهم إضافة إلى أنها ساهمت بتشكيل عدد من الواحات وبساتين النخيل.
تدمر مدينة الأحلام هذه المدينة الفريدة المثيرة التي تأسر الناظر بجمالها وغموضها وعظمتها، من يزر تدمر يشعر كأنه سافر عبر الزمن مئات السنين، حكمت زنوبيا تدمر منذ القرن الثاني الميلادي وهي وإن كانت قديمة نسبياً إلا أن كل من يزور تدمر لغاية اليوم يشعر أن روح زنوبيا العظيمة مازالت تهيمن على تدمر ومازال يسمع صهيل الخيل وهي تجوب الشارع المستقيم ويستمع لصوت الشعراء وهم يبثون الحماسة في الجيوش المدافعة عن مملكة تدمر ويصدون هجمات الأعداء الطامعين بخيراتها.
ولدت زنوبيا في تدمر، كانت امرأة ذكية ذات رأي وحكمة وعقل وجمال فائق، تملك شخصيةً فذةً قلما يجود الدهر بأمثالها، مخططة من الطراز الفريد، درست تاريخ الممالك والحضارة الإغريقية والرومانية… كانت تتحدث اللغة الآرامية واليونانية والمصرية بطلاقة، تحترم العلم والعلماء وأدنت من مجلسها الفلاسفة والحكماء، استطاعت زنوبيا أن تقود شعبها إلى نهضة شاملة في كل المجالات ولعبت دوراً رئيسياً في المنطقة وفي إمبراطورية روما بالذات، فلقد كانت بذكائها وقوة شخصيتها قادرة على توجيه الحكم إلى حيث ما ترسم من مجد لتدمر ولسلطتها.
زنوبيا امرأة طموح هاجسها المجد والسلطان وكانت لا تخفي رغبتها في أن تصبح يوماً ما إمبراطورة على روما ذاتها، ومعظم الآثار في تدمر يعود الفضل في تشييدها إلى زنوبيا.
تولت حكم تدمر بعد مقتل زوجها أذينة ونيابةً عن ابنها وهب اللات وازدهرت تدمر في عهدها وامتد نفوذها على جزء كبير من بلاد الشام، توسعت مملكتها وامتدت من شواطئ البوسفور حتى النيل وأصبحت أهم الممالك وأقواها في الشرق على الإطلاق، أصدرت زنوبيا العملة الخاصة بمدينة تدمر وطبعت عليها صورة ابنها وهب اللات على الوجه الأول للعملة وعلى الوجه الثاني صورة الإمبراطور الروماني.
كانت تشرف بنفسها على أعمال الإعمار والبناء وتسليح الجيوش وتدريبها، لها مقدرة فائقة على قيادة الجيوش وبث الحماسة في نفوس جنودها، لم تتخل عن حلمها بالتوسع في آسيا ومصر فلقد وصلت جيوشها إلى بيزنطة في العصر الروماني وفتحت الإسكندرية ووسعت مملكتها وضمت الكثير من البلاد الأمر الذي أقلق إمبراطور روما أورليان وأفزعه طموحها وتوسعاتها وحجم إنجازاتها الحضارية والعسكرية، ما دفعه لشن حملة عسكرية كبيرة على مملكتها وهدد تدمر وحاصرها طويلاً وبعد كر وفر قبض عليها ثم اصطحبها معه إلى روما أسيرةً مكبلةً بأصفاد من ذهب.
وانطوت بذلك صفحة العصر الذهبي الذي وصلت إليه تدمر في عصر زنوبيا إلا أن حياة زنوبيا وسيرتها وآثارها لا تزال باقية حتى اليوم شاهدة على حضارتها تروي قصصاً بطوليةً تثير الإعجاب.
ومن المهم جداً أن نذكر (وهنا غايتنا من استعراض حياة زنوبيا) أن شخصية زنوبيا لم تكن استثناءً أو من قبيل المصادفة في تاريخ سورية بل كانت البيئة في سورية التي رافقت نشوء هذه الحضارات والممالك مهيأة لذلك تماماً.
قد يهمك أيضًا:
روسيا تخطط لتسليم نموذج ثلاثي الأبعاد من آثار تدمر إلى سورية
السلطات السورية تعثر على تمثالين مسروقين من آثار تدمر داخل وكر لـ"داعش"