القاهرة - أ.ش.أ
بقدر ما كشف الجدل الحالي حول فيلم (حلاوة روح) الذي تقرر منع عرضه مؤقتا في سياق مواجهة موجة من الأفلام الهابطة عن انقسامات عميقة عبرت عنها طروحات وآراء في الصحف ووسائل الإعلام فإنه يثير أسئلة ثقافية عميقة وحالة استنفار بين كثير من المثقفين ، دفاعا عن الإبداع الحقيقي ورفضا للانهيار الأخلاقي. ومن بين هذه الأسئلة كما يكشف عنها الجدل المستمر في الصحف ووسائل الإعلام :"هل هي أزمة سينما أم أزمة مجتمع وتردي الذوق العام أم أن هناك علاقة جدلية بين الأزمتين كما هي العلاقة المعروفة بين البنية الفوقية والبنية التحتية للمجتمع؟. وهل تعبر موجة الأفلام المصرية الأخيرة حقا عن المجتمع المصري أم أنها تخرب دعائم هذا المجتمع بقدر ماتسيء لتاريخ وعراقة السينما المصرية"؟!. وهل الأزمة ترجع في أحد جوانبها "لخفة الموازين الثقافية" للقائمين على صناعة السينما المصرية في راهن المرحلة أو الذين تصدروا هذا المشهد واعتبروا بنوع ظاهر من المن أنهم ينقذون صناعة السينما من الانهيار بإنتاج أفلام هابطة بالمعايير الإبداعية الفنية ولكنها تحقق إيرادات عبر إثارة الغرائز بالعري والعنف الجسدي واللفظي؟. وكان رئيس الوزراء المهندس إبراهيم محلب قد قرر وقف عرض فيلم حلاوة روح مؤقتا حتى يعرض مجددا على الرقابة على المصنفات الفنية ، فيما أكد أهمية الدور الذي تقوم به السينما في تكوين الشخصية والوعي الثقافي والحفاظ على الهوية المصرية بروافدها المختلفة والإسهام في بناء المجتمع. وأوضح الدكتور محمد صابر عرب وزير الثقافة أن هذا الفيلم سيعرض على لجنة من الفنانين وأساتذة علم الاجتماع ، فيما أشادت الدكتورة عزة العشماوي الأمين العام للمجلس القومي للأمومة والطفولة بقرار الوقف المؤقت لعرض فيلم حلاوة روح ، وقالت إنه "يتضمن صورا ومشاهد مبتذلة ومناظر فاضحة تشكل خطرا على حقوق الطفل". وكان المجلس القومي للأمومة والطفولة قد ندد بموجة الأفلام الهابطة التي اجتاحت دور العرض السينمائي في الآونة الأخيرة ، معتبرا أنها "تسيء للأخلاق والمبادىء والقيم الأصيلة للأسرة المصرية". وإذا كانت الدعوات تتصاعد من جانب العديد من المثقفين المصريين لوضع حد لموجة الأفلام الهابطة وسط حالة من الحسرة الظاهرة على التراجع المخيف في نوعية ومستوى الأفلام المصرية بعدما اقتحم الهجامة محراب الفن ، فذلك لايعني الحجر والمنع كما يحاول البعض أن يصور الأمر!. تماما كما أن أحدا لا يريد أو يتمنى أن يخسر أي منتج أمواله في السينما ، وإلا فإن الإنتاج السينمائي لن تدور عجلته ولن تظهر المزيد من الأفلام وستتعرض شريحة في المجتمع المصري مرتبطة بصناعة السينما لأضرار مؤكدة ، لكن السؤال هل الربح يقترن دائما بالإسفاف وانحطاط الذوق أم أن الكثير من الأفلام الجيدة والحاملة لأفضل القيم حققت الكثير من الأرباح كما يشهد تاريخ السينما في مصر والعالم؟!. وفي تصريحات صحفية قالت الدكتورة سامية الساعاتي أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس إن معظم القائمين على صناعة الأفلام الحالية لايرون غير الجوانب المادية فيما يقدمون غير عابئين بالمجتمع وهم يتمتعون بقدر كبير من الذكاء يجعلهم قادرين على دراسة المجتمع جيدا ليقدموا موضوعات تجذب المراهقين تعتمد على الرقص والمخدرات واللعب على غرائز الجسد. وإذا كان الجدل الذي أثاره هذا الفيلم يؤشر لأزمة ما في المجتمع ناهيك عن معنى الفن والإبداع ، فثمة حاجة لتعميق اتجاه شرع فيه الكاتب والمفكر السيد يسين لدراسة تحولات الشخصية المصرية في تفاعلاتها مع السياقات التاريخية المتعددة التي مر بها المجتمع المصري ومن بينها مايصفه بـ "لحظة الفوضى العارمة عقب 30 يونيو 2013 والتي تسببت فيها جماعة الإخوان". ويرى نادر بكار المتحدث باسم حزب النور السلفي أن المسألة لاتتعلق بفيلم (حلاوة روح) وحده وإنما هناك "موجة عاتية من أفلام ومسلسلات تلفزيونية تحمل نفس الطابع " ، معتبرا أن هذه الموجة من الأفلام تمثل نتيجة وهو أمر يمكن الاستدلال عليه بمجرد المطالعة المتفحصة لحال المجتمع المصري في آخر عشر سنوات". وأضاف بكار " أننا نعاني من بنية مجتمعية منهارة أو موشكة على الانهيار وهذه البنية إما أنها هي من أفرزت حلاوة روح أو أن الفيلم نفسه وأشباهه أحد مظاهرها وتجلياتها" ، فيما لم يخف "ارتيابه" من "حديث البعض عن رفضه الإيقاف من حيث المبدأ ذاته" مع تسليمه بأن أحدا "لم يجسر على تأييد الفيلم تأييدا مطلقا". ومع ذلك فقد انتقد وسام أبو العطا في صحيفة (الأهرام) بشدة قرار رئيس الوزراء بوقف عرض فيلم حلاوة روح ، وتساءل في سياق انتقاداته عما وصفه بـ"حرية الإبداع" ، معتبرا أن قرار وقف عرض الفيلم بناء على رغبة مجموعة من المواطنين "يمس هيبة الدولة". وفي جريدة الشروق هاجم الناقد السينمائي كمال رمزي قرار الوقف المؤقت للفيلم ، واعتبر أنه لا يتضمن أي مشاهد إثارة فيما طالت انتقاداته رئيس الوزراء ووزير الثقافة والمجلس القومي للأمومة والطفولة ، وذهب إلى أن "الحفاظ على تقاليد المجتمع وقيمه هو قول بائس". ورغم إشارته إلى أن القضية لا تتعلق بتقييم فيلم (حلاوة روح) فقد حمل الكاتب والمعلق الدكتور وحيد عبد المجيد بشدة على قرار الوقف المؤقت لعرض هذا الفيلم وذهب إلى أن القرار يشكل اعتداء على "حرية الإبداع". وفي خضم الأزمة الراهنة التي أوحت وكأن هناك نوعا من التصادم بين حرية الإبداع وحماية الثوابت الأخلاقية للمجتمع يبرز اسم جهاز الرقابة على المصنفات الفنية واستدعت بعض الصحف ووسائل الإعلام تاريخ هذا الجهاز الذي يرجع لعام 1927 فيما تقرر تشكيل لجنة لاعادة هيكلته ومراجعة قوانينه في ضوء مشكلة فيلم (حلاوة روح) الذي أيد الفنان محمد صبحي منعه من العرض. ووسط هذا الجدل حول الموجة الجديدة من الأفلام الهابطة وعلاقة الفن بالسياسة ، أشار السيد سامي شرف مدير مكتب المعلومات للرئيس الراحل جمال عبد الناصر في إيضاح نشرته جريدة (الأهرام) أمس الأول الخميس إلى عينة من المسرحيات والأفلام التي عرضت في سنوات حكم عبد الناصر رغم أنها كانت تنتقد نظام حكمه. وحسب ما قاله السيد سامي شرف فإن هذه العينة من المسرحيات والأفلام التي انتقدت النظام في حياة جمال عبد الناصر تتضمن:"الزير سالم" لألفريد فرج و"بلاد بره" لنعمان عاشور و"المسامير" و"سكة السلامة" و"ياسلام سلم" و"بير السلم" لسعد الدين وهبة و"الإنسان والظل" لمصطفى محمود و"انت اللي قتلت الوحش" لعلي سالم و"السلطان الحائر" لتوفيق الحكيم و"ميرامار" لنجيب محفوظ و"شيء من الخوف" لثروت أباظة. وأعاد سامي شرف للأذهان أن جمال عبد الناصر رفض قرار الرقابة بمنع عرض فيلم "شيء من الخوف" ، وكذلك توصية نائبه أنور السادات بعدم عرض هذا الفيلم لما يتضمنه من إسقاطات على "النظام وشخص الرئيس" فيما قال عبد الناصر بعد أن شاهد الفيلم بنفسه أنه سيكون من الخطأ في حق مصر أن يترك في منصبه الرئاسي لو كان بكل هذا الطغيان والجبروت كما هو حال "عتريس" بطل الفيلم المأخوذ عن قصة للأديب الراحل ثروت أباظة. هكذا وبتعليمات من الرئيس جمال عبد الناصر ، عرض فيلم (شيء من الخوف) يوم الثالث من فبراير عام 1969 في سينما ريفولي بالقاهرة ، كما أمر الرئيس بعرض هذا الفيلم في مهرجان سينمائي بموسكو. وكان الأديب النوبلي نجيب محفوظ أحد من تولوا مسئولية رئاسة جهاز الرقابة على المصنفات الفنية وكان يستعين بكبار المثقفين في صورة لجنة للنظر في تظلمات أصحاب الأعمال التي تعترض عليها الرقابة. ويقول الشاعر والكاتب فاروق جويدة في سياق تعليق على الأزمة السينمائية الراهنة "حرية بلا مسئولية انفلات وفوضى..وإبداع بلا هدف أخلاقي مغامرة غير محسوبة النتائج وجريمة في حق الإنسان" . وكانت الدكتورة سامية الساعاتي قد أشارت إلى أن البعض من الذين يقدمون هذه الأفلام الهابطة يدافعون عنها بكل قوة "بحجة الإبداع" فيما تساءلت :" لماذا أدمر أخلاقيات شعب بالكامل في سبيل تحقيق إيرادات كبيرة"؟!. ولفت فاروق جويدة إلى أن رئيس الوزراء إبراهيم محلب لم يصادر فيلم (حلاوة روح) أو وقف عرضه نهائيا ، وإنما أحال الفيلم لأهل الاختصاص وأصحاب المعرفة ليقولوا كلمتهم رغم الغضبة الشعبية الصارخة ضد هذا الفيلم ، ومطلب ملح من المجلس الأعلى لرعاية الطفولة بوقفه. ورأى أن هذا الفيلم "لم يكن يستحق هذه الضجة من الناحية الفنية فهو يدخل في نطاق سلسلة أفلام المقاولات الرخيصة التي أساءت للفن المصري كثيرا وتعتبر من الصفحات السوداء في تاريخ الثقافة المصرية". وأضاف جويدة "ينبغي ألا نتوقف كثيرا عند فيلم هابط ونثير حوله الصخب والضجيج ولكن ينبغي أن تكون لنا وقفة مع حالة الانهيار الأخلاقي التي أصابتنا كشعب وأصبحت تهدد كل ما لدينا من الثوابت الأخلاقية والإبداعية والفكرية ، ونرى أسباب ذلك كله والفن الهابط في مقدمة هذه الأسباب". وخلص إلى أن "الفيلم الهابط سقطة من مئات السقطات ولكن هناك كيانا ثقافيا وفكريا وحضاريا تهدده الآن غابة من العشوائيات المتوحشة التي تقودها فصائل من تجار القبح وسماسرة العبث وأوشكت أن تقضي على تاريخ طويل من الفن والإبداع الجميل". وذهب معلقون إلى أن الفيلم الذي أشعل الجدل الحالي بعد قرار وقف عرضه مؤقتا هو "فيلم رديء منسوخ من فيلم إيطالي جيد لأن مشاهده الخارجة كانت موظفة في سياقها الدرامي وتعبر عن منظور ثقافي يخص أصحابه ولايمت لنا في مصر بصلة" ، كما اعتبر بعضهم أن قرار المنع "أضفى على هذا الفيلم أهمية لايستحقها" فيما تبدو هذه الموجة من الأفلام أبعد ما تكون عن السينما المصرية في مسيرتها المديدة التي شهدت أفلاما صنفت ضمن الأفلام العالمية. والسينما المصرية قدمت في عصرها الذهبي نجوما مازال العالم يتذكر إبداعهم الفني وحضورهم الطاغي بل إن أحدهم وهو عمر الشريف البالغ من العمر الآن 82 عاما ترك بصمة لا تمحى في الثقافة الغربية وداخل هوليوود على حد تعبير مارلون براندو عراب السينما الأمريكية الراحل وأحد أعظم ممثلي القرن العشرين. وها هو المخرج الأيرلندي جيم شيريدان ينظم مهرجانا سينمائيا عربيا اعتبارا من الثامن وحتى الحادي عشر من شهر مايو المقبل بهدف اكتشاف "عمر الشريف الجديد" فيما قال عن "أيقونة السينما المصرية" أن عمر الشريف الذي سيكون ضيف الشرف في هذا المهرجان بدبلن "يبقى بلا جدال أهم نجم سينمائي قدمه العالم العربي للدنيا كلها". والسينما المصرية - كما تقول ذاكرتها الموثقة - حققت منذ ثلاثينيات القرن العشرين مكانة فنية وثقافية بارزة لمصر في محيطها العربي والإقليمي والقاري بل إن الفيلم المصري كان موضع ترحيب في دور العرض السينمائي بدول مثل فرنسا واليونان وإيطاليا وبريطانيا والنمسا والمانيا وسويسرا وحتى البرازيل. غير أن المشهد السينمائي المصري الراهن يبدو شاحبا حتى قياسا على أفلام تقدمها دول عربية أخرى بينما بدت تيمة "البلطجي والراقصة والمطرب الشعبي" التي تشكل قوام موجة الأفلام الهابطة في الآونة الأخيرة ظالمة لإبداعات وأفكار وخبرات السينمائيين المصريين وخاصة الجيل الشاب في صناعة كانت يوما ما من أهم مصادر الدخل القومي للبلاد ويقدر عدد العاماين حاليا في هذه الصناعة بنحو 300 ألف شخص. وفي بيان صدر في شهر سبتمبر الماضي قال سينمائيون مصريون إن تراجع إنتاج الأفلام يهدد صناعة السينما التي تعاني بالفعل من مشاكل متفاقمة تثير مخاوف العاملين في هذه الصناعة من التعرض للبطالة. وبعد أن كان متوسط الإنتاج السنوي يزيد على 40 فيلما في سنوات ماضية لم يتجاوز عدد الأفلام التي انتجت عام 2013 الـ 15 فيلما والكثير منها ينتمي لما يعرف بالأفلام الهابطة بينما شكلت الأفلام التي تنتمي لما يعرف بـ "السينما المستقلة" وتنتج بميزانيات محدودة ، نوعا من الرد الإبداعي البناء على تلك الموجة من الأفلام التجارية الهابطة. وبين يناير 2011 ويونيو 2013 تأثرت السينما المصرية كثيرا بحالة الفوضى التي اصطنعها البعض وإهدار الفرص للنمو الاقتصادي بشعارات تعبر عن حالة زاعقة للمراهقة الثورية والانتهازية الإخوانية فيما جاءت موجة الأفلام الهابطة الجديدة في وقت تدعو فيه الحاجة بالفعل لحشد الطاقات في مواجهة تحديات جسيمة. وإذا كان بعض المعلقين أبدوا شعورا بالدهشة حيال الجدل الذي احتدم في الصحف ووسائل الإعلام حول موجة الأفلام الهابطة الجديدة والقرار الخاص بمنع عرض فيلم قبل إحالته للرقابة السينمائية مجددا فقد لا تكون الدهشة مبررة ؛لأن القضية مهمة بالفعل وتتعلق بذائقة مجتمع يريد البعض إفسادها عمدا بدعوى حرية الاإبداع مع أن الإبداع يبدو بريئا من حالة الانحطاط الثقافي كما تتجسد في تلك الأفلام. والحق أن تصريحات وأقوال بعض القائمين على هذه النوعية الرديئة التي سادت في السينما المصرية تبدو وكأنها متواطئة ومبررة لكل مايمكن أن يكون عدوا لمصر والمصريين ثم أنها توغل في المغالطات عندما تحتكم لمنطق المال وحده بقدر ما تهدر الرأسمال الرمزي والتاريخي للسينما المصرية وقوتها الثقافية الناعمة. وهكذا يحق التساؤل عما إذا كانت هذه النوعية من الأفلام تنتمي بالفعل للفن أم أنها شىء آخر لاعلاقة له بالفن والإبداع؟!..الفن لا يجوز اختزاله في راقصة ذات عبث مسعور..تاريخ السينما المصرية لا يجوز تقديمه على طبق من ذهب للرقص العاري وزهزهة الساقين والوجه الهماز اللماز وكل صنوف الكذب ونزق المال المستوطن في العيون الشبقة لمزيد من أوراق البنكنوت مع كل فيلم هابط !..ارفعوا أيديكم عن السينما المصرية وكفاكم كذبا وتمويها وركضا مسعورا في دائرة البشاعة!.