أهالي الدرب الأحمر

اصطف العشرات من أهالي منطقة الدرب الأحمر، تحاول أعينهم اختراق ذلك "الكردون الأمني" المفروض على جانبي منزل المتطرف الذي فجّر نفسه بمجرد اقتراب قوات الأمن منه ومحاصرته بعد رصده وملاحقته، الإثنين.

اقرا ايضا : انتحاري يفجّر نفسه بالقرب من الجامع الأزهر ويقتل 3 أشخاص

وفيما يبدو كعادة أصبحت متأصلة في المصريين ولا سبيل لتغييرها، العشرات يتجمعون في مكان الانفجار، فيما تحاول قوات الشرطة تفريقهم وإبعادهم عن الطوق الأمني المفروض على منزل الحادث، فيبتعدون قليلًا، وما هي إلا ثوانٍ قليلةٍ ويعودون للتجمع والتجمهر مرة أخرى، وسط تعالي صيحات رجال الأمن "يا جماعة بعد إذنكم اللي ملوش لازمة يتفضل يمشي".

لحظات بطولة الشهيد محمود أبو اليزيد، أمين الشرطة، الذي ضحى بنفسه، وألقى بجسده على المتطرف لحظة تفجيره العبوة الناسفة، كانت محور الحديث الدائر في تجمع أهالي المنطقة، حيث أشار شاهد العيان "رفض ذكر اسمه"، الذي يسكن بجوار مسجد "الدرديري"، إلى أن ما فعله "الشهيد أبو اليزيد"، أنقذ المنطقة من كارثة محققة، فلولا أنه تصدى للقنبلة بجسده لكانت الخسائر كبيرة.

عقب انقشاع الغبار والأدخنة التي أثارها انفجار القنبلة، وضحت الصورة أمام ساكن حارة الدرديري فقال "شوفت على الأرض 3 جثث بعد الانفجار على طول"، إلا أن الخسائر لم تتوقف على خسارة الأرواح، فالمنطقة التجارية التي وقع بها الحادث تضرر فيها بعض واجهات المحلات التجارية، وتهدم جزء من المنزل الذي وقع أمامه الانفجار، والذي أحدث صوتًا مدويًا اهتزت له البيوت القديمة في الحارة.

لم تكن البطولة التي قام بها الأمين الشهيد أثناء الانفجار هي الحسنة الوحيدة التي ذكرها أهل المنطقة له، فأول ما ردده سكان الشارع عنه أنه "كان أجدع أمين شرطة في المنطقة"، فالرجل الأربعيني، أحد أصحاب المحلات التجارية بالحارة القديمة، والذي رفض بدوره ذكر اسمه، ظهرت علامات الحزن على وجهه، بينما يحاول أن يغلب دموعه، بعد رحيل أبو اليزيد، وظل يترحم عليه، حيث لا يتذكر له سوى مواقف طيبة جمعته به في منطقة الخدمة بالحسين، فقال "كان فيه جدعنة ولاد البلد، وقالي قبل كدة إنه ساكن في إمبابة".

وفي ركنٍ منزوٍ من الحارة، وقف ذلك الشاب الثلاثيني، مستندًا إلى أحد الحوائط، فيما يبدو أنه بين اليقظة والحلم، بين الصمود والانهيار، بين تصديق ما تراه عينه وتسمعه أذناه وتكذيب الواقع الذي يحدث أمامه، يردد في صوت خافت "أبواليزيد استشهد.. اتكلموا عنه"، بينما تنهمر الدموع من عينيه بلا توقف، وكأنها تفيض من نبعٍ لا يجف ولا يتوقف.

أحمد سلَام، الذي يقيم في حارة الدرديري منذ ولادته، جمعته علاقة صداقة بأمين الشرطة الشاب محمود أبو اليزيد، والذي كان يخدم بقسم الدرب الأحمر ويقول "مصدقتش إن محمود مات، كان أجدع وأحسن أمين شرطة في المنطقة كلها، لو مشيت دلوقت في وسط الناس، مش هتسمع كلمة واحدة وحشة في حقه، كله بيترحم عليه".
 
يروي سلام، أن أمين الشرطة، الشهيد، الذي قدم روحه دفاعا عن أهالي الحي، كان لديه 3 أطفال، ويعيش في حي إمبابة مع عائلته والدته وزوجته، مشيرًا إلى أن أهالي المنطقة كانوا يحبون الحديث معه، لوقوفه بجانبهم في كل وقت، "كان إيده نضيفة، وعمره ما افترى على حد"، بينما يستذكر مواقف "جدعنته" التي لم تنقطع حتى وفاته "كان بيقف جنب الناس في ضيقتهم، وساعات كان يطلع فلوس من جيبه يساعد الناس، في ناس كانوا هيتحبسوا بسبب ديون عليهم، هو دفعها لهم وأنقذهم من السجن".

مفاجأة أخرى، فجرها "سلام" عن الشهيد، أبواليزيد، الذي لا تجد أحد في محيط المنطقة، إلا ويترحم عليه، وهي إنه استشهد قبل أن يؤدي العمرة، "كان طالع مع والدته السعودية الجمعة الجاية، علشان يعمل عمرة"، مشيرًا إلى أن أصدقائه بقسم الدرب الأحمر في قمة الحزن على فقدانه: "حرفيًا أمناء الشرطة زمايله في قسم الدرب الأحمر بيبكوا عليه بدل الدموع دم".
ساد الهدوء لحظات بين المتجمهرين، ربما كانت تمهيدًا من القدر لتلك الصرخة التي شقّت عنان السماء، تنادي على الشهيد أبو اليزيد، والتي كان مصدرها والدته، التي وصلت إلى موقع الحادث رفقة زوجته، وليقضيا مدةً من الزمن داخل موقع الانفجار، فيما تمر اللحظات على الواقفين خارج "الكردون" الأمني كأنها سنوات، منتظرين رؤية الأم الثكلى والزوجة التي صارت أرملة، من أجل مواساتهما وتعزيتهما.

رسالة للرئيس عبد الفتاح السيسي، كانت أول ما تحدثت به والدة الشهيد محمود أبو اليزيد عقب خروجها من موقع الانفجار "دم ابني ميروحش هدر"، حيث طالبته بسرعة القصاص لنجلها الشهيد، والذي استشهد في عمر لم يتجاوز الـ37 عامًا، تاركًا خلفه ثلاثة أبناء، قالت عنهم جدتهم "هيعملوا إيه بعد موت أبوهم؟ أنا عاوزة حق ولاد محمود".

الأم التي بدا عليها الثبات والجزع معًا، قصت آخر ما جمعها بابنها قائلةً "امبارح طلعلي الباسبور عشان نطلع نعمل عمرة مع بعض، والنهاردة كلمني عشان الحاجة اللي هناخدها معانا للعمرة، ابني كان محبوب من الكل، واحتسبته شهيدًا عند بارئه، إلا أنها أكدت أنها لن تنام حتى يعود حقه، ويهدأ دمه بالقصاص من قاتليه"، في نفس الوقت الذي خرجت فيه زوجته منهارةً رافضة الحديث أو التصوير، بينما تسير بصعوبة بالغة، مستندة على أحد مرافقيها.

متطرف "الدرب الأحمر"، الحسن عبد الله العراقي، والذي فجر نفسه في حارة "الدرديري"، بعد أن نفذ منذ أيام قليلة تفجيرا في ميدان الجيزة أمام مسجد "الاستقامة"، بمجرد أن تردد اسمه بين أهالي وسكان المنطقة، بعد الكشف عنه وعن شخصيته، حتى أصبح مركز الحديث بين أصحاب المحلات في الشارع، والمتجمهرين من أبناء الحارة في مكان الحادث.

"كل يوم بيعدي راكب العجلة والشنطة على ضهره والكمامة على وشه وإحنا منعرفش إنه متطرف"، كلماتٌ رددها شابٌ عشريني، وسط أصدقائه المتجمعين بجوار موقع حادث "الدرب الأحمر" في أثناء حديثهم عن المتطرف، فذلك الشاب الذي يخرج يوميًا راكبًا دراجته، واضعًا حقيبته على ظهره، مخفيًا وجهه بكمامة يستخدمها الجميع لمواجهة العواصف الترابية، لم يتخيل شباب المنطقة يومًا أن يكون متطرفا تسبب في التفجير الذي وقع أمام مسجد الاستقامة منذ أيام قليلة "ده لسة معدي قدامنا هنا امبارح زي ما بيعدي كل يوم وعمرنا ما فكرنا إنه شايل قنابل في شنطته".

الشاب العشريني تبدو عليه ملامح مختلطة من الصدمة والتعجب والحزن والغضب، بينما يتحدث عن ذلك المتطرف الذي استطاع أن يخدع كل سكان المنطقة بمظهره الذي بدا عليه أنه "ابن ناس" كما وصفه الشاب وأصدقاؤه "من لبسه والعجلة اللي بيطلع بيها كل يوم والكمامة وعدم اختلاطه أو كلامه مع حد مكانش ليه صحاب وكنا حاسين إنه عايش عيشة غير عيشتنا".

"هو الواد اللي كان بيعدي من هنا كل يوم بعجلته؟!" هكذا وجه أحد الشباب المتجمعين السؤال لصديقه متعجبًا ومستنكرًا أن يكون متطرف "الدرب الأحمر" مر من هنا، واختلط بهم وربما حادثهم يومًا ما، ليسير في طريقه، حاملًا قنابله في الحقيبة التي ترسو على ظهره، متوجهًا إلى مكان يترصده ليبيع نفسه للشيطان، ويرسل شهداءً أبرارًا إلى الجنة.

قد يهمك ايضا : قوات الأمن المصرية تنجح في إبطال مفعول قنبلة في الجيزة

                 رئيس جامعة الأزهر محمد المحرصاوي يتفقد مستشفى الحسين