القاهرة - مصر اليوم
يُعد متحف «جاير أندرسون» هو أحد أهم المنازل الأثرية، ويتكون من منزلين يرجع تاريخ إنشائهما إلى العصر العثماني وبالتحديد خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلادي، وقد تم دمجهما في منزل واحد.
ويعتبر هذان المنزلان خير مثال للمنازل المصرية خلال العصر العثماني، واشتهر كلاهما باسم "بيت الكريتلية"، ويرجع سبب تلك التسمية إلى أن آخر ملاك المنزل واسمها "آمنة بنت سالم" ترجع أصولها إلى جزيرة كريت.
وقامت لجنة حفظ الآثار العربية بترميم المنزلين وربطهما بقنطرة، في عام ١٩٣٥م حصل جاير أندرسون باشا - الضابط بالجيش الإنجليزي - على موافقة لجنة حفظ الآثار العربية على سكن المنزلين لما عرف عنه من ولع بالآثار على أن يتم تحويل المنزلين إلى متحف عند مغادرته مصر نهائيًا أو بعد وفاته.
اقرأ أيضًا:
"الجمارك" المصرية تحبط عملية تهريب باب أثري من العصر العثماني
وخلال الفترة من عام ١٩٣٥م إلى عام ١٩٤٢م قام بتجميع العديد من الآثار النادرة من مختلف العصور، اضطر جاير أندرسون باشا إلى السفر إلى انجلترا في عام ١٩٤٢م بسبب اعتلال صحته فتسلمت الحكومة المصرية المنزلين بمحتوياتهما من آثار وتحف وقامت بتحويلهما إلى متحف وأطلقت عليه اسم جاير أندرسون.
وخلال الفترة الأخيرة، انتهى قطاع المتاحف بوزارة الآثار، من أعمال توثيق المنحوتات واللوحات الفنية الموجودة بمتحف جاير اندرسون، والتي شملت توصيف كل قطعة وصفاً دقيقاً، من حيث الأبعاد، ونوعية الخامات، وفكرة العمل، وتقنية التنفيذ، والفترة الزمنية لها، وهوية الفنان الذي أنتجها.
وتحدَّث الدكتور ياسر منجي أستاذ الجرافيك بكلية الفنون الجميلة جامعة حلوان، ورئيس اللجنة التي قامت بأعمال التوثيق العلمي لجميع المنحوتات واللوحات الفنية المعروضة بالمتحف، عن تفاصيل المتحف وأهم أعماله؛ فيما فجَّر عدة مفاجآت.
وكشف الدكتور منجي في البداية عن صعوبات توثيق وقائع تاريخ الفن المصري الحديث، قائلًا، "كنتُ، ولا أزال، مُصراً على أن وقائع تاريخ الفن المصري الحديث لم تُكتَب بعدُ كاملةً، وعلى أن المخبوء والمجهول والمَنسي من تفاصيلها وأحداثها وتحولاتها، بل وأبطالها، يكاد يوازي – إن لم يَفُق – المعلوم والشائع والمتاح، تأريخاً وتوثيقاً ودراسةً، وهذا المعنى كنت قد أكدتُ عليه في مناسباتٍ متعددة، خلال السنوات الماضيات، اللاتي أوقَفتُ في أثنائها شطراً كبيراً من جهدي البحثي على إعادة توثيق سِيَر المنسيين والمجاهيل من فناني مصر، وإعادة تصحيح المغلوط وتوضيح المُلتَبِس من وقائع تاريخنا الفني الحديث وأعماله".
وضاف "قد كان يقيني، ولا يزال، أن آفة الآفات الكامنة في صميم هذه الفجوة التاريخية، إنما تتمثل في استسهال نقل المعلومات المتواترة، واستنساخها عن الشائع من المصادر والمشهور من المراجع، فهذا الاستسهال – للأسف - هو السبيل المطروق عند الكتابة عن تاريخ الفن المصري الحديث، لدى جمهرة عظيمة من الباحثين، مِمَّن يكتفون عادةً بوسائل البحث المكتبية، ويستغنون بها عن بقية أدوات البحث الميداني، وعن المراجعة الحية للوثائق الأصلية، ناهيك عن إجراء المقارنة بين المصادر ومطابقة بعضها ببعض".
وعن الصعوبات التي واجهتهم في توثيق متحف «جاير أندرسون»، قال "الكشف الذي أسوقه اليوم يُعَدُّ نموذجاً ساطعاً، تتجلى من خلاله ملامح الإشكالية المذكورة بأدق تفاصيلها؛ إنه يمثل إعادة اكتشافٍ لمجموعةٍ فنيةٍ نادرة، تتضمن فرائد من أعمال نخبةٍ من مشاهير رواد الفن المصري، وعددٍ من أبرز الفنانين الغربيين الذين استوطنوا البلاد خلال النصف الأول من القرن العشرين، وتركوا خلال مكوثهم بها بصماتٍ مؤثرةٍ، سواء في معترك الحركة الفنية أو في دوائر التدريس الأكاديمي للفنون في مصر".
و"رغم شُهرة هؤلاء الفنانين جميعًا، فقد ظلت هذه المجموعة – أو بالأحرى هذا الكنز – مهجورةً مِن قِبَل دارسي الفن المصري الحديث ومؤرخيه ونقاده، ولم تلقَ ما تستحقه من دراسةٍ وتوثيقٍ منهجي، بل ولم تَحظَ حتى بمجرد التنويه بها في المراجع والمصادر الفنية المتخصصة".
وأوضح "تزداد حدة المفارقة، حين نعلم أن المجهولية التي ظلت تغلف هذه المجموعة الفنية الفريدة في طيّاتها، استمرت قرابة خمسة وسبعين عاماً، برغم كونها معروضةً في واحدٍ من أشهر مزارات مصر السياحية وأجملها، وهو متحف "جاير أندرسون"، أو "بيت الكريتلية"، الكائن في جوار جامع "أحمد ابن طولون"؛ ذلك أن بعض الأعمال الفنية التي تتضمنها هذه المجموعة كانت تحت بصر الزائرين منذ عام 1943 دون أن يُلقي إليها أحدٌ من مؤرخي الفن المصري الحديث بالاً!".
وتحدَّث عن أسباب هذه المفارقة، قائلًا "الحقيقة أنني تفكّرتُ طويلاً في أسباب هذه المفارقة، التي أدت إلى مكوث هذه المجموعة الفنية النادرة في ظلال النسيان، برغم وجودها داخل هذا المَعلَم الأثري الشهير، ولا أزعم أنني اهتديتُ سوى لبعض الاحتمالات، التي قد تبرر عدم انتباه المتخصصين في الفن إليها".
وأضاف "فمن هذه الاحتمالات: الخصوصية التاريخية للمكان نفسه؛ فزائرو المكان يأتون في الأساس وهم مفتونون بنموذج شخصية "جاير أندرسون" (روبرت جرونفيي جون جاير أندرسون) (1881 – 1945) – أو "أندرسون باشا" - ذلك الميجور الإنجليزي صاحب السيرة المثيرة، التي التقت فيها ممارسة الفن، بجمع الآثار، واقتناء نفائس الأثاث والمنسوجات والتحف والكتب، والذي هام بمصر وبتراثها وآثارها حُباً، ليتخذ من بيت "الكريتلية" مستقراً، جمع فيه ذخيرة رحلته تلك".
وأكد "باختصار، يمكن القول بأن أغلب زائري المكان يأتون وهم مشحونون بذلك الحِسّ النوستالجي، الذي تختلط فيه إثارة السيرة الفريدة لـ"أندرسون" بدوافع الافتتان بهذا الأثر المعماري البديع، وبما يشمله من مجموعات المقتنيات التاريخية، والنوادر الأثرية، التي تستقطب جُلّ اهتمام السواد الأعظم من الزائرين، بأكثر مما قد تفعله مجموعة (لوحات) حديثة، في إطار ثقافةٍ عامةٍ لا تعبأ كثيراً بالفنون البصرية"، لافتًا "أضف إلى ذلك طبيعة المكان، باعتباره مزاراً أثرياً في المقام الأول، قد لا يتطرق لأذهان الكثيرين أنه يحوي بين ذخائره ما يَمُتّ للفن الحديث بِصِلة، فالأمر هنا أقرب إلى تأثير تلك القاعدة الشهيرة: "أبسط وسيلة لإخفاء شيءٍ مهمٍ هي عرضه ماثلاً للعيان في مكانٍ بارز"، وهل هناك في هذه الحالة أبرز من مزار متحفي شهير؟! .
وقال "على رغم كل ذلك، وأيّاً كانت الأسباب التي أدت بهذه المجموعة إلى أن تظل مجهولةً لدى متخصصي الفنون ومحبيها، ففي ظني أنها تُبَيّن مدى جسامة الإشكالية التي يعانيها التأريخ الجاد لفننا المصري الحديث، وتوضح جانباً من التحديات التي تكتَنِف مساعي توثيق بدائع هذا الفن والتأريخ الدقيق لمُجمَل ثروة مصر الفنية".
وأوضح أن البداية كانت "لصلةٍ لي ببعض فرائد هذه المجموعة الفنية قد بدأت عام 2012، في أثناء عكوفي على إكمال مادة كتابي المُعَنوَن "برنارد رايس: الأب المجهول للجرافيك المصري"، الذي نُشِر في العام نفسِه، وذلك حين لاحظتُ خلال إحدى زياراتي للمتحف وجود عملٍ من أعمال الرسم بالفحم ضِمن هذه المجموعة، يحمل توقيع "برنارد رايس"، إضافةً إلى أعمالٍ جرافيكيةٍ أخرى له، منفذة بطريقة الطباعة البارزة.
غير أن ظروفاً متعددة حالت دون أن أشرع وقتها في تَقَصّي بقية فرائد المجموعة، واستكشافها والتعرف على فنانيها بأسلوبٍ منهج، وكان في مقدمة هذه الظروف سفري خارج مصر، وانشغالي ببعض المهام البحثية ومشروعات التوثيق الفني والتراثي بعدة دول عربية، لم أفرغ منها إلا منتصف عام 2016".
وأضاف "بعودتي آنذاك لزيارة المتحف، بصحبة دفعات من طلاب كلية الفنون الجميلة، استَجَدّ الدافع مرة أخرى للشروع في دراسة هذه المجموعة الفنية، وضرورة مخاطبة إدارة المتحف في هذا الشأن رسمياً، وهو ما حدث بالفعل خلال نهاية شهر نوفمبر من عام 2018، حينما تحدثتُ إلى الأستاذة "مرفت عزت"، مدير عام المتحف بهذا المعنى، لأجدَ من جانبها استجابةً وحماساً، يعزّزهما وعيٌ، وطُموحٌ لتطوير المتحف وتوثيق نفائس محتوياته، وكان أن أسفر هذا النقاش عن تشكيل لجنة رسمية شرفتُ برئاستها لهذا الغرض".
وأكد "يقتضيني الواجب هنا توجيه التحية للفاضلات، اللاتي ضرَبن خير مثال للهِمّة الإدارية، التي أتاحت تحويل فكرة إعادة الكشف عن هذه المجموعة الفنية من احتمالٍ إلى واقع، فقد قامت الأستاذة "مرفت عزت" بمخاطبة السيدة "آمال صديق"، مدير عام المتاحف التاريخية، بتاريخ 28 نوفمبر 2018، لتشكيل لجنة توصيف للوحات والمنحوتات الحديثة الموجودة بالمتحف، لتُرفَع المخاطبة، ولتصدر الموافقة على ذلك من السيدة الأستاذة "إلهام صلاح الدين"، رئيس قطاع المتاحف بالمجلس الأعلى للآثار، ولتصل إلى المتحف يوم 2 ديسمبر 2018".
وتابع، "بناءً على ذلك، فقد شرفتُ في يوم 5 ديسمبر 2018 بتلقي الخطاب الصادر رقم (839) بالموافقة الرسمية على رئاستي لهذه اللجنة، بعضوية السادة أمناء العهدة الأثرية بمتحف "جاير أندرسون".
وعن المدة الزمنية التي استغرقتها اللجنة لتوثيق أعمال المتحف، قال "استمر العمل لثلاثة أشهُر متصلة، خلال اجتماعات أسبوعية داخل المتحف مع فريق العهدة، تم خلالها فحص كافة الأعمال الفنية الحديثة الموجودة ضمن مجموعة "جاير أندرسون"، وتوصيف كل قطعة توصيفاً دقيقاً، من حيث الأبعاد، ونوعية الخامات، وفكرة العمل، وتقنية التنفيذ، وتوثيقها من حيث تاريخ الإنتاج، وهوية الفنان الذي أنتجها، لتتكشّف خلال ذلك عدة مفاجآت".
وكشف عن أبرز الأعمال الفنية النادرة في المتحف، وقال، "بالفحص الدقيق اكتشفنا اشتمال هذه المجموعة الفنية الفريدة على أعمالٍ لكلٍ من الرواد "محمد ناجي"، و"محمود سعيد"، و"جورج صباغ"، و"إيمي نمر"، بالإضافة إلى لوحة نادرة، مرسومة بالألوان المائية، من أعمال الأمير "محمد علي توفيق"، ولي عهد مصر الأسبق، وصاحب القصر الشهير بالمَنيَل، وهي موقعة، ومؤرخة بعام 1936، وتتضمن إهداءً بالإنجليزية لبيت الكريتلية".
وأوضح الدكتور المنجي أن من أبرز المفاجآت التي تم اكتشافها خلال العمل، " حدثت في أثناء فحص لوحةٍ تتضمن صورةً شخصية للوالي "محمد علي" باشا، وبأسفلها تأريخ ليوم 13 مايو 1806، وهو تاريخ ذكرى مرور عام على مناداة زعماء الشعب المصري بـ"محمد علي" والياً على مصر، وبأسفل التأريخ، عبارة نَصُّها: "مؤسس العائلة العلوية الخديوية محمد علي الكبير"".
وعند فحص ظهر اللوحة، ظهرَت أربعة ملصقات متفاوتة المساحات، أولها بطاقة موقعة بتوقيع "جاير أندرسون"، تتضمن عبارات قصيرة بالإنجليزية حول وصف العمل، أما الملصق الثاني فهو غلاف العدد رقم 106 من مجلة "الراديو المصري"، الصادر في 27 مارس من عام 1937، احتفالاً بمئوية تأسيس نظارة المعارف "ديوان المدارس".
وظهرت على الغلاف صورة اللوحة نفسها، مطبوعة بدرجات الأبيض والأسود، وقد كُتِب أسفلها: "صورة زيتية لرأس الأسرة المالكة المصرية، يرجع عهدها إلى 13 مايو عام 1806، سمح بنشرها مُجاملةً الميجر جاير أندرسون صاحب "بيت الكريتلية"، بمناسبة الاحتفال بالعيد المئوي لوزارة المعارف.....". وإلى جوار هذا الغلاف، اشتمل ظهر اللوحة على ملصقٍ ثالث، يتضمن الخبر نفسه مطبوعاً باللغة الإنجليزية، أما الملصق الرابع، فيتمثل في طابع بريد، يتضمن صورة "محمد علي"، وقد صدر عام 1938، بمناسبة استضافة مصر للمؤتمر الدولي للمناطق الحارة.
وعن الفنانون الغربيون الذين اكتشف وجود أعمال لهم ضمن المجموعة، قال، "الفنانون الغربيون، الذين كشف الفحص عن وجود أعمالٍ لهم ضمن المجموعة، من أبرزهم كلٌّ من: المصور الإنجليزي "سبيرلينج"، و"توماس جاير أندرسون" – الشقيق التوأم للميجور "أندرسون" صاحب المتحف – و"برنارد رايس" مؤسس فن الجرافيك المصري الحديث، و"حمزة كار"، الذي كان من أساتذة مدرَسَتَي الفنون الجميلة والفنون التطبيقية، وكان من أبرز تلامذته "صلاح طاهر" و"رمسيس يونان".
وتابع "كما تتضمن المجموعة كذلك أعمالاً للفنانين الإنجليز: "فيفيان فوربس"، والحفار "إيريك جيل"، و"جلين فيلبوت"، و"رجينالد بريل"، و"إرنست بروكتر"، و"وليام ستيوارت"، و"أوسكار بيرجمان"، و"إدنا كلارك هول"، و"دود بروكتر"، و"إدوارد لير"، و"وليام أشتون"، و"جورج إلجوود"، و"فرانك برانجوين"، و"هربرت ترومان".
واستطرد قائلًا، "قد تم توثيق كافة البيانات الخاصة بأعمال المجموعة، من خلال التقارير التفصيلية لأعمال اللجنة، تمهيداً لنشرها لاحقاً في كتالوج خاص، من إصدارات المتحف، مزود بالصور، سيتضمن دراسة تاريخية وافية عن المجموعة وفنانيها، بقلم كاتب هذه السطور، كما أنه من المُزمَع أن يُنَظّم المتحف معرضاً خاصاً لهذه المجموعة، لإعادة إلقاء الضوء عليها بما يناسب قيمتها الفنية".
واختتم قائلًا، "أما عن لوحة "محمود سعيد" المشار إليها، فهي تمثل في حد ذاتها اكتشافاً، يفتح من جديدٍ ملف توثيق أعمال روادنا الكبار، بما يستوجب أن نستقصيه بالتفصيل في مقالٍ مستقل، ولهذا حديثٌ آخرُ قادم".
قد يهمك أيضًا:
آثار العصر العثماني في السودان لا تزال أغلبها قائمة في مواقعها