الكويت ـ وكالات
لا حدود للجسد، ولا موازين لإمكاناته البشرية. هذا ما يعبر في بال كل مشاهد مسمّر في كرسيه تحت سماء بيت الدين، أمام فرقة الصين الوطنية للألعاب البهلوانية، مرتبك بوزنه وعضلاته وهيكله العظمي، مسحور بما يراه من معجزات تمكّن الجسد البشري من بلوغها، إن في تحوّله من إنسان يسير على قدميه إلى كائن هوائي من فصيلة الطيور، ومن إنسان بستريح تحت ظل الأشجار إلى قرد يقفز من غصن إلى آخر، عربته الهواء، ومن فقرات عظمية تدير خطواته إلى ثعبان لا يعوقه حاجز، أو سمكة جعلت من المدى بحرها...، أجساد بشرية تركت قشور الأرض وتعالت مالكةً الجاذبية، حرّة، تغار العصافير من غزوها فضاءاتها. في هذه الليلة من ليالي مهرجانات بيت الدين، تركنا هموم الوطن، وجذورنا المتعمشقة في تربته، لنتعلّم كيف ينجو المرء من ثقل حياته، ليغدو كهؤلاء، طيرا، حشرة، حورية تجذب أوليس إلى جزيرتها بحسنها وجسدها الملتوي ألف التواءة حوله لتغويه. هذا على الأقلّ، والسحر يرش غباره الذهبي في العيون، ما تخيّلته، وللخيال في هذه الأمسية من صنع الصين وبهلوانياتها، له وحده حرية التحرّك والتحليق، ما دام الجسد عاجزاً عن ذلك. فرقة الصين الوطنية للألعاب البهلوانية، المؤلّفة من خمسين راقصاً وراقصة، مدرّبين على أعلى التجارب البهلوانية وأبعدها، في عرف الطاقات الجسدية، حذاقة ومغامرات خطرة، كان لها برنامجها الشامل من إغراءات بصرية وانفعالات هورمونية تنبّه الحواس. فتيات بلباس الفراشات المزدانة بألوان الزهو، عبرن بين صفوف المشاهدين، على أنغام رقيقة من قصب ووتر. كان كل شيء حتى تلك الآونة شاعرياً وناعماً، إلى أن بدأت المشاهد، تعلو مؤثراتها، حيث الصبية الفاتنة المرفوعة على كفّ الفتى في بدء العروض، وكأن الكف مساحة حرّة للرقص والتفاف الأعضاء وتحرّرها بلفتة سحرية، لم تكن سوى تمهيد لما يتوصل إليه العناد الجسماني من طاقات تقهر المستحيلات. اثنتا عشرة لوحة، في كل منها تحدٍّ جبار لدى هؤلاء الذين لا عمر لهم. في تركيبتهم رقة وطواعية تجعلهم من أهل الخرافة. وفي فنّهم تتلاقى التحديات البهلوانية بأناقة الرقص، وفي آن واحد يرسمون ببراعة الحركات العملاقة، لوحات مهندسة بتوازن حسوي، هائل. الصين تغرينا بمظلاتها المزهرة ومراوحها ودواليب الهواء التي لا تحتاج بين الأيدي إلى هواء يديرها، كما الكرات التي تقفز وتعود إلى يدي لاعبها من دون أن تغامر لحظة خارجهما. هي ألعاب خفة مدهشة، لا تتوقف عند حدّ، إذ في هذه الفرقة يعلو سقف الاختبارات إلى ما لا حدود لعرفنا في إمكانات البشر. ففي كل لوحة تغدو التحديات أصعب، ولو مصوغة بأساليب طريفة، كلها عياقة كوريغرافية بارزة. أما رأينا الحلقات المعدنية يعبرها الفتيان كأسماك بحرية، ومع كل تجربة تعلو الحلقات وتضع المتجرّب في عين التحدبات ولا ينهزم؟! أهل هواء وماء، هم. هوذا الشراع في انتظار راقصين، يلتفان به فيرفعهما في كوريغرافيا، أرضها الفضاء. ما يجري على المسرح من مؤثرات بصرية، لا يحجب ما يرتسم على خلفية المسرح، من ظلال تنفرد عن المشهد الحي صانعةً لها مشهداً مستقلا كلوحة من الفنون الغرافية. الموسيقى والظلال لها كيانها في هذا العالم اللاملموس حيث يغدو الكائن البشري المؤلّف من فتيان وفتيات خلقوا من ألعاب الطفولة عجائبهم، عنصراً هيولياً نبحث عنه في الظلال المرتسمة على الجدران لنتحقق من وجوده.