أنقرة ـ جلال فواز
تخيل ندوة في لندن يوجد بها أعضاء من مختلف الأحزاب، بمن فيهم المسلمين ومؤيدي ورافضي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وكذلك الاسكتلنديون الأيرلنديون، وأعضاء الجمعيات النسوية والمتحولون جنسيًا، كل هؤلاء يناقشون مستقبل بريطانيا السياسي، كلهم يوجد بينهم خلافات عميقة، ولكن هناك احترام متبادل، وعلى الرغم من صعوبة تخيل حدوث ذلك في العاصمة البريطانية، لكن الوضع في تركيا لا يزال أصعب بكثير، حيث مجرد تخيل لعقد مثل هذه الندوة.
أردوغان يعتقل رمز المجتمع المدني
ونظمت المدرسة الأوروبية للسياسة، وهي من بنات أفكار "عثمان كافالا" أحد الشخصيات الفكرية والثقافية في تركيا، في سبتمبر/ أيلول الماضي، ندوة عن السياسة التركية، وحضرها طلاب من مختلف الانتماءات السياسية في تركيا، بما في ذلك الأرمن والأكراد، وحاولوا تبادل وجهات النظر، وكانوا أيضًا ملتزمين بفتح حوار، وكانت المفاجأة أنه بعد شهر واحد من عقد هذه الندوة، ألقت الحكومة التركية القبض على كافالا، وسيظل محتجزًا لمدة 200 يوم، رغم عدم توجيه أي اتهامات له.
وتلمح الصحافة الموالية للحكومة وكذلك البرلمان إلى أن كافالا عدو تركيا، وله صلات بجماعات متطرفة، وكان متورطًا في الانقلاب الفاشل عام 2016، ولكن كل هذه التلميحات ليست إلا هراء، حيث لعب كافالا دورًا بارزًا في الدفاع عن حقوق وحريات الجميع في تركيا، بما في ذلك الأكراد والأرمن، وفي الجمع بين الناس من وجهات نظر سياسية مختلفة لمناقشة خلافاتهم في الجدل المدني، ومول جزء من المشاريع التي تسعى إلى تعزيز الثقة بين تركيا وأرمينيا، وهو رئيس منظمة أنادولو كولتر، وهي منظمة تروج للتعددية الثقافية في تركيا، بهدف "بناء جسور بين مختلف المجموعات العرقية والدينية والإقليمية من خلال تبادل الثقافة والفن".
الوضع السياسي التركي يقلق الجميع
ويسيطر القلق على الأتراك من تدهور الوضع السياسي في البلاد، وكان كابلا هو الشخص الوحيد القادر على تجميع الأتراك بمختلف انتمائتهم بهدوء لمناقشة ما يحدث والوصول إلى أفضل النتائج والحلول، ولكن احتجازه هو إشارة إلى أنه بعد تطهير الجيش والشرطة وتفكيك الخدمة المدنية والأوساط الأكاديمية والذي قام به الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بدأ يسلط اهتمامه على تفكيك المجتمع المدني، لأنه يرى أن الحوار المفتوح يشكل تهديدًا عليه.
وشهدت تركيا ارتفاعًا في حالات الاعتقالات بعد فرض أردوغان حالة الطوارئ في أعقاب الانقلاب الفاشل يوليو/ تموز 2016، وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 150 ألف شخص فصلوا من وظائفهم، بما فيهم 6 الآلاف كاديمي، و4500 قاض، وأُعتقل ما يصل إلى 137 ألف شخص، وأغلق نحو 200 منفذ إعلامي، وحجب 100 ألف موقع، وكذلك تزايد حبس الصحافيين، ليصبح ثلث الصحافيين المسجونين حول العالم موجود في تركيا.
والهدف مما سبق هو القضاء على الحد الأدنى لانتقادات الحكومة وسياستها، وهذه السياسة تنجح، حيث قال أحد السياسيين البرزين لمنظمة هيومان رايتس ووتش" الخوف والرقابة الذاتية يشبهان الدخان، يتشربان يوميًا، ويتزايدان ولا يمكننا التنفس بعد الآن، نفكر مرتين قبل الحديث أو الكتابة".
استمرار استخدام حجة التطرف
وزار أردوغان بريطانيا في الأسبوع الماضي، وكانت زيارة رسمية، حيث التقى رئيسة الوزراء تيريزا ماي، والملكة إليزابث، وتعتبر بريطانيا تركيا شريكًا مهمًا في مرحلة ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كما تجد تركيا بريطانيا حليفًا رئيسيًا في حربها ضد التطرف.
وباعت بريطانيا بأكثر من مليار دولار أسلحة إلى أنقرة منذ الانقلاب الفاشل في عام 2016، وفي مؤتمر صحافي مشترك، تحدثت ماي عن الحاجة إلى الحفاظ على "القيم الديمقراطية" ولكنها تعاطفت مع زعيم يواجه "الضغوط غير العادية للانقلاب الفاشل والتطرف الكردي"، وأصر أردوغان على أن جميع المعتقلين كانوا "متطرفين"، وبالتالي في عالم أصبح فيه التطرف المبرر الجامح للقمع الجماعي، يمتلك أردوغان يده الحرة لمواصلة سياساته، وفي هذه الأثناء، لا يزال ضحايا هذه السياسات يتراكمون، حيث الموتى، والسجناء، والذين لا صوت لهم، وفي عالم مجزأ، والذي غالبًا ما يكون فيه التغيير الاجتماعي مدفوعاً أكثر من الغضب الناقص من الحجة المنطقية، لا يمكن الاستغناء عن شخصية مثل كافالا، لأن سجنه هو سجن سينتج عنه الأمل.